همس في أذني صاحبي أبوحسين قائلاً: سيد أتريد أن نذهب للأم البحرينية التي فقدت ثلاثة من أبنائها بسبب المخدرات وعندها اثنان أيضاً في السجن؟ أجبته: ولم لا؟ دعنا نذهب لنرى الصورة من قريب. دخلت القرية وأنا أقول لصاحبي: أين هو البيت؟ قال لي: هذا هو أمامك، فقلت له: أنا لا أرى منزلاً، قال لي: هذا المنزل الخشبي هو بيتهم. دخلت إلى داخل الدار، وتسمرت عيناي وأنا أرى غرفاً من الخشب ومطبخاً من الخشب. صورة مأسوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، استقبلتنا الأم وجلسنا في غرفتها الخشبية. جلست وأنا أحدثها. قرأت في عينيها صورة جنائزية لأبنائها الثلاثة. إنها أم ثكلى بكل ما تحتويه الكلمة من معنى. على محياها صورة للحزن والألم. ليس ابناً واحداً ولا اثنين بل ثلاثة أبناء. قالت لي: سيد لا أريد شيئاً من الحياة بل أريد أن تنتشلوا ابني من وجع الادمان، احدهم بدأ التماثل للشفاء، لكن أملي في المجتمع من أهل الخير ألا يعاملوه بقسوة وعنف، فيرجع إلى ما كان عليه وأملي في وحدة المؤيد أن توفر له سريراً ومرشداً توعوياً ينتشله والآخر مما هما فيه. إن وحدة المؤيد تعاني من قلة أسرة ونحن هنا نأمل من الحكومة النظر في ذلك. «قلبي لا يتحمل فقد أبناء آخرين» قالت ذلك واسترسلت في البكاء، ثم راحت تتابع حديثها وهي تكفكف دموعها: هل تتصور أماً تفقد ثلاثة من أبنائها وهم في عمر الزهور واحداً تلو الآخر ثم يرحل زوجها وتفقد أيضاً ابنها الرابع في حادث خارج البلاد (وهو ابنها من الزوج الأول)؟ فقدت 4 من أبنائي في سنوات متقاربة، أنا أصلي وأصوم وأعبد الله لكن الفقر قاتل وأبناء السوء (إذ أوهموا أبنائي الثلاثة بأن هذا الطريق يجلب لهم الغنى والرفاهية والتحول من الفقر الذي نعيشه إلى أن أكلهم هذا الغول). الفقر ورفاق السوء دمرا حياة أبنائي، وهما اللذان قادا أبنائي إلى طريق الادمان. ابني الاكبر ترك وراءه أرملة و4 بنات احداهن مصابة بالسكلر والأخرى بالسكر ويعشن هم وأمهم الأرملة في غرفة 3 أمتار في 3 أمتار، وأعمارهم (1,5، 8، 14، 22). من لهؤلاء الأطفال؟ ما ذنبهم؟ أليس من حقهم أن يعيشوا كبقية أطفال العالم؟ ثم أخذتني وصاحبي إلى المطبخ الخشبي وهو آيل للسقوط، كل البيت آيل للسقوط، ثم قالت: عندما كنت في صحة جيدة جمعت أخشاباً من القرية وصنعت هذا المطبخ. راحت الأم تتحدث ولمحت وهي تتكلم صوراً لثلاثة أبناء معلقة على الحائط الخشبي، قلت لها: من هؤلاء؟
أجابت: هؤلاء أبنائي، وقالت: أنا أشعر بنار تشتعل في داخلي، أحياناً اختلي بنفسي والصور وابقى أبكي ساعات عليهم، يا سيد، المجتمع قاسي، ما يرحم، ولا أحد يفكر في احد، أتمنى من كل أم أن تنتبه إلى أبنائها، وأتمنى من الحكومة أن تفكر في أزمة الفقر وتداعياتها «فعلا الفاقة أم الجرائم». سألتها: ما هي حاجاتكم؟ هل تطمحون بتوصيل رسالة إلى المجتمع والدولة؟ قالت: نحن ولله الحمد نحصل من «الشئون» على مبلغ بسبب الترمل والأطفال يحصلون من لجنة كفالة الأيتام التابعة للديوان لليتم، لكن ما نريده منزلاً لزوجة ابني الراحل (الابن الاكبر)، تحفظ عيالها فيه، هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى شقة تضمهم، وتحفظهم من كوارث الدهر، من حقهم أن يعيشوا بقية عمرهم بلا وجع، كفاية اليتم والفقر وضيق المعيشة وقساوة المجتمع! أما المجتمع فأخاطبه: ليس الحل أن تقسو على المدمنين، بل الحل محاولة ارشادهم وارشاد المجتمع، الحل في تشجيع التائبين منهم، وليس القسوة عليهم إلى أن ينتكسوا فيرجعوا إلى ما كانوا عليه. راجعوا الأسباب، ما ذنب الأطفال أن يقسو عليهم المجتمع؟ ابني الاكبر مات أبوه فلما ذهب للفاتحة طرد من المكان. منع من حضور فاتحة أبيه، هل الاسلام يأمر بذلك؟ كم من شباب في طريقه إلى التوبة بسبب العلاج والارشاد وخصوصاً أن بعضهم يذهبون إلى السعودية ليتعالجوا في مستشفى الأمل ثم بسبب إعراض وقسوة المجتمع ينتكس فيرجع إلى التعاطي إلى أن يفقد حياته؟ ودعنا الأم على أمل أن تنظر الحكومة إلى كل دمعة ذرفتها، إلى كل آهة أطلقتها فتجعل منها ابتسامة وأملاً، والأمل في إنشاء مركز تأهيل، وتطوير وحدة المؤيد وتغيير ثقافة الناس في التعاطي مع هذه القضايا.
ويبقى السؤال: كيف نعمل كأمة لانتشال أبنائنا من مرض الادمان؟ عوائل تنهار، وشموع تنطفئ، يتم وترمل وضياع، إنه الأمل أن نصنعه في العتمة
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1353 - السبت 20 مايو 2006م الموافق 21 ربيع الثاني 1427هـ