لا يمكن لأية صحيفة في الدنيا، أن تخضع لأية ضغوط من الخارج، من دون أن نسمي ذلك الخارج. فقد يكون القارئ، أو المعلن، أو حتى الجهاز التنفيذي في السلطة، وخصوصا اذا ما جاءت تلك الضغوط صريحة وواضحة للتخلص من كاتب عمود. وحين أقول لا يمكن لأية صحيفة، فذلك لا يعني أنه لا توجد نماذج منها في عالمنا. أنا فقط أعني الصحف التي لا يمكن أن تساوم في ثوابتها ومهنيتها واحترامها لتوجهاتها.
لجوء بعض الصحف الى ما يشبه الاستفتاء على بقاء كاتب أو رحيله، يعد سابقة في تاريخ هذه الصناعة، لأن الصحافة والاعلام عموما، في النهاية صناعة تقدّم منتجا له مواصفاته واشتراطاته ومقاييسه، وحتى سقف انتاجه. أقول يعد سابقة خطيرة تكشف عن أمور أربعة:
الأول: إما أن يكون مثل ذلك الاستفتاء صُوريا، ولا وجود له أساسا، وفي ذلك تزوير لجانب من الممارسة والعلاقة مع القارئ، وإما أن يكون قد شُرع في تنفيذه، وبات واقعا تتعامل معه أطراف وجهات، من المفترض أنها المعنيّة بالإدلاء برأيها في موضوع الاستفتاء الذي نحن بصدده، وإن تم ذلك فلا يخلو الأمر من كارثة. كارثة على مستوى التأسيس والتأصيل لممارسات مقبلة، تنتقل مستقبلا من صفحة تُعنى بالشعر الشعبي، الى صفحات تُعنى بالرأي وقياس الوعي وصعوده، وما يدور في الأمكنة والحيزات التي يتحرك فيها ذلك الوعي. اضافة الى أن تبني الصحيفة للاستفتاء وموضوعه، يكشف عن الأمر الثاني، وهو يحتمل تفسيرين: إما أن تكون الصحيفة غير مقتنعة بمضمون عمود ما وكاتبه، وهي بذلك ليست مطالبة باللجوء الى الاستفتاء، ويمكنها أن تكتفي - كحق من حقوقها - بإيقاف العمود وصاحبه، وإما أن تكون متورطة بالمضامين التي يحتويها ذلك العمود، ومثل ذلك التورط لا يمنحها الحق نفسه. بمعنى أن المضامين قد لا تلتقي وقناعة القائمين على الصحيفة، ولكن ليس كل ما لا يلتقي مع قناعتها - أو قناعة أية صحيفة - يمنحها الحق في ايقافه وحجبه، والا باتت صحيفة تؤمن باللون والطعم والرائحة الواحدة، عدا عن الرأي الواحد، وهي بذلك لا تختلف عن أي نظام في دولة تحظر قيام الأحزاب، وتدع حزبا واحدا يمسك بزمام وخناق الأمة، وهي بذلك أيضا مشروع حكم عسكري شمولي، أكثر منها صناعة اعلامية لها أسسها واشتراطاتها ومرئياتها وأخلاقياتها، عدا عن استقلاليتها.
الأمر الثالث الذي يمكننا أن نتلمّس من خلاله مثل ذلك التوجّه/القرار/البدعة في الاستفتاء وموضوعه، أن كاتب العمود (موضوع الاستفتاء) لا يمكن الجزم والتيقن من أن الغالبية العظمى تذهب مذاهبه فيما يطرح ويناقش، وقد أشرت في عمود الأسبوع الماضي، الى انني واحد ممن لا ينزعجون اطلاقا من استمرار «رنين» و«قناص» وغيرهما من الكتاب بأسماء مستعارة، مع ملاحظات أبديتها في العمود، ليس هنا مجال ذكرها. ثم إن عدم اتفاق الغالبية العظمى مع كاتب العمود ليس هو الفيصل في الأمر، إذا ما أخذنا في الاعتبار تباين واختلاف وتعدّد مستويات القناعات بين شخص وآخر، فإما أن الصحيفة ليست على علم بتلك المسلّمة، وذلك مستبعد، وإما أن تكون على علم بها وحاضرة لديها، وفي ذلك يبرز اشكالان: الأول عدم تحري الصحيفة الدقة والأمانة في إيصال نتيجة الاستفتاء الحقيقية الى الجمهور، مع افتراض حدوث تلاعب في النتيجة، على رغم عدم منطقية الاستفتاء وتبريره في المقام الأول، كما أشرت في بداية المقال، وإما أن تتعاطى مع النتيجة تلك بكل أمانة وصدقية، وفي هذه الحال، لا يبرئها من ارتكاب واقتراف السابقة المذكورة، بمعنى أنها في الحالين معا لن تبرأ ساحتها.
الأمر الرابع والأخير، يرتبط بفحوى وجدوى المعالجات والمضامين التي يجب أن تحويها الأعمدة والمقالات في أية صحيفة في الدنيا، بمعنى المردود والقيمة المتأتية من الاصرار على استمرار عمود، أو العكس. ذلك واحد من الثوابت التي لا يمكن لأي صحيفة تحترم نفسها وأداءها ورسالتها وأهدافها، من دون أن تضعه في الاعتبار.
ولإنعاش ذاكرة القارئ مرة ثانية، في استدراك لا أبغي من ورائه تملصا مما ورد في هذا العمود. سبق أن أشرت وأعربت عن إعجابي بأسلوب وإمكانات كاتب عمود «قناص»، ولكنني لم أخف انزعاجا مصدره عدم توظيف تلك الامكانات كما يجب في ترصده وقراءته للإشكالات والأزمات والقضايا التي تعج بها الساحة الشعرية الشعبية في مملكة البحرين، وظل مركّزا كل اهتمامه على حالات من «الاستعداء» وما يشبه «الشخصنة» للأمور، في مفارقة غريبة ربما لم يلتفت اليها الا قليلون. ففي الوقت الذي يتوارى فيه الكاتب العزيز «قناص» عن التصريح باسمه، تجد مساحة كبرى من تلك المقالات تتجنب وتتبنى أسلوب التورية نفسه بعدم التصريح بأسماء الذين يقفون وراء الاشكالات والأزمات والقضايا التي يتناولها، ويرى أنهم مسئولون عنها، وذلك مما يبعث على الأسف - بالنسبة لي - إذ على رغم امكاناته الملحوظة والملفتة، يحدث ذلك التناول بسطحية غريبة لا تفسير لها، ولا أدّعي القدرة على الوقوف على تفسير منطقي لها.
أصل الى اضاءة أختم بها هذا المقال، قد اكون صائبا فيها وقد اكون خلاف ذلك، تتعلق بالصفحة نفسها التي أجلّ وأقدّر القائمين عليها، ولا غاية من وراء هذه الكتابة، سوى الحرص على الساحة الشعرية الشعبية في المملكة أولا وأخيرا. فالصفحات - كل الصفحات - المعنية بالشعر والأدب الشعبي، مصيرها في يوم من الأيام الى الضمور أو ربما الانتهاء والتوقف، ولكن الساحة ستظل حاضرة وإن لم تجد صحيفة حائط في مدرسة لمحو الأمية تملأ بها نصوصها وإشكالاتها، وهذا الأمر يعرفه القائمون على الصحيفة المعنية، وكذلك الصفحات الزميلة الأخرى، والتي بتحقيقها لأي نجاح وتطور، هو بمثابة نجاح وتطور لجميع الصفحات من دون استثناء، اذ لم يعد الأمر متعلقا بالمنافسة وحدها - ولا ضير في ذلك - بل هو متعلق بأخلاقيات المنافسة تلك وأدبياتها.
الاضاءة الذي أنا بصددها تتركز على مسألة الاستقطاب الذي تعمد اليه الصفحات المهتمة بالشعر الشعبي - ولا أبرئ نفسي من الوقوع في ذلك المطب - وهو استقطاب لا يتفحص المستويات والامكانات والقدرات للمساهمات التي تنهمر عليها من كل حدب وصوب، ولذلك أسبابه، أعد بالتصدي للتطرق اليها في مقال الأسبوع المقبل
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1352 - الجمعة 19 مايو 2006م الموافق 20 ربيع الثاني 1427هـ