يعتبر الإسلام أن كل طاقة في واقع الأمة، مادية أو معنوية، هي ثروة في رصيدها، ويجب استثمارها والإفادة منها، ولا يجوز تبديدها أو هدرها بأي شكل. وثمة مسئولية شرعية قانونية في هذا المجال، إذ حرم الإسلام الإسراف والتبذير ولو في الأمور اليسيرة والحقيرة، فكيف إذا كانت المسألة تمثل تلاعباً وهدراً لثروات كبيرة ومصيرية.
والثروة في الإسلام على نحوين: الثروات العامة التي لا يملكها أشخاص بأعينهم، وإنما هي ملك للأمة بكل مكوناتها، ومن هذا القبيل منابع النفط والمعادن والماء والثروات الجوفية ومجاري الأنهار وما في البحار ورؤوس الجبال وغيرها مما تعارف على جعل إدارتها بيد الدول، لا بيد الأفراد، وتمثل مخزوناً استراتيجياً للأمة عبر أجيالها المتعاقبة. ووضع الإسلام برنامجاً تفصيلياً لإدارة هذه الثروات، من خلال الحاكم الشرعي العادل ومن ينوب عنه، والذي يضع الأمور في مواضعها من دون حيف أو جور.
والنحو الثاني يتمثل في الثروات التي يتملكها الأفراد أو الجماعات من خلال أنشطتهم التجارية أو الصناعية أو الزراعية وغيرها، أو ما يكتسبونه ببعض أسباب التملك الأخرى كالميراث وسواه. وهذا النحو من الثروات هو الآخر محكوم لبرنامج تفصيلي وضعه الإسلام ومنع من تجاوزه، سواء لجهة تكون هذه الثروات أو لجهة تحريكها في الواقع، وكذلك بالنسبة إلى أداء حقها، لأن الإسلام وإن لم يقف موقفاً سلبياً من الملكية الفردية، فإنه في برنامجه التشريعي حال دون تكدس الثروات في أيدي جماعات أو أفراد قليلين من بني البشر. ومن هنا جاء نظام الضرائب الإسلامي، وكذلك نظام الميراث كعامل من عوامل تفتيت الثروة وتوزيعها على أكبر عدد ممكن من الناس، ليكون الانتفاع بهذه الثروات انتفاعاً عاماً، فقد قال الإمام علي(ع): «ما جاع فقير إلا بما متع به غني»، و«ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع».
وبالعودة إلى الثروات العامة التي تشكل عصب الحياة بالنسبة إلى الأمة وعنصر قوتها، فإننا نعتقد أن هذه الثروات ليست ملكاً لإقليم دون آخر أو لعائلة معينة أو لعشيرة ما لمجرد أن هذه الثروات تقع في منطقتها، بل إن هذه الثروات هي ملك الأمة بأجمعها، ومن حق الأمة أن تستفيد منها ليس في الإطار المادي فحسب، بل بما يرتبط بالأمور السياسية والاستراتيجية الكبرى لتتحول إلى مادة للدفاع عن قضايا الأمة في مواجهة أعدائها. إن هذه الثروات العظيمة لأمتنا تتعرض للنهب والهدر وسوء التوزيع، ويضع أفراد قليلون أيديهم عليها، كأنما هي ملك خاص لهم، أو أن الله سبحانه وتعالى وهبها إليهم، وهذا التعاطي السيئ مع هذه الثروات يمثل ظلماً كبيراً وإن غفل عنه الكثيرون بعدما صار أمراً واقعاً، وبعدما تقسمت الأمة وتوزعت دويلات وأحزاباً، كل حزب بما لديهم فرحون.
إننا نعتقد أن المخزون من الثروات الطبيعية في الأمة وفي بلاد المسلمين هو ملك للأمة على امتداد أجيالها، فليس من حق الجيل الأول أن يستأثر بهذه الثروات ويبددها بما لا يمثل حاجة ملحة للأمة فيمنع الأجيال الأخرى من أن تستفيد من هذه الطاقات والإمكانات. إن الثروة الحقيقية التي نمتلكها كمسلمين هي الأمة الإسلامية نفسها بما تمثل من عناصر إنسانية وقيمية وعلمية، وهذا العنصر هو الأساس وهو الذي يحرك ويدير سائر ثروات الأمة، فإذا صلحت الأمة من داخلها واستقامت وأحست بقوتها واستفاقت من غفلتها وكبوتها فلن تبقى ثرواتها نهباً للآخرين. ولهذا عمل كل من الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي على إدخال الأمة في حال من الغيبوبة الفكرية والسياسية وزجها في أجواء الخرافة والتجهيل والتمزيق كي لا يصحو هذا المارد الكبير ويتمرد على سارقيه وناهبي ثرواته من المستكبرين الكبار وأزلامهم الصغار في الداخل.
إن المشكلة الكبرى تكمن في أن ثروات الأمة تسرق مرتين، الأولى عندما يضع الاستعمار والاستكبار يده عليها بشكل مباشر، والثانية عندما يتحكم هذا الاستعمار بطريقة تسويقها والإفادة من عائداتها والتدخل حتى في مسألة الحجم الذي ينبغي أن يتم استخراجه من هذه الثروات تبعاً لأسواقه الخاصة ولمتطلباته ومصالحه الذاتية. إننا نلاحظ أن ثرواتنا التي تسرق باتت تمثل ورقة بأيدي الناهبين الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي لا تكتفي بنهب هذه الثروات على النحو الذي تقوم به شركاتها التي توظف بعض المسئولين الأميركيين فيها كشركة هيلبرتون وغيرها، بل تعمد إلى التحكم بما هو في باطن الأرض من هذه الثروات ليكون الاحتياط النفطي كما في العراق، هو احتياط سياسي واقتصادي لمصلحة الإدارة الأميركية بما يمكنها من تكثيف ضغوطها على دول الاتحاد الأوروبي وعلى الصين واليابان وغيرهما لتكون هذه الثروات بمثابة النقمة على أصحابها الحقيقيين والنعمة على المستكبرين، في ظل حال السقوط التي تعيشها الدول العربية والإسلامية. ولعل حال السقوط هذه ساهمت في وضع الاحتياط المالي العربي في المصارف الأميركية أيضاً لتتحكم أميركا باحتياطاتنا النفطية والمالية على السواء.
إن القرارات الدولية التي باتت تصدر بالجملة والتفصيل وتستهدف الدول التي تحمل في حركتها وتوحي في شعاراتها ممانعة للخط السياسي الأميركي هي الحلقة الأخرى التي تستكمل من خلالها الإدارة الأميركية محاولاتها المتصاعدة لمصادرة القرار السياسي بعد مصادرتها للاحتياطات الاقتصادية والثروات الطبيعية للأمة. ولذلك، فإننا نضع ما صدر ويصدر عن مجلس الأمن من قرارات، سواء تلك التي استهدفت لبنان وسورية أو التي ستستهدفهما، وكذلك ما يحضر ضد إيران في نطاق الحلقة الأخيرة من حلقات الاستهداف المباشر، والتي من شأنها أن تقود إلى توسيع نطاق الفوضى في المنطقة، إلا أن من شأنها أيضاً أن تتحول إلى مقبرة حقيقية للمشروع الأميركي الذي بات يترنح بين خياري التقهقر أو الدخول في مغامرة جديدة يعرف أصحابها أنها ستكون مكلفة على جميع المستويات.
ولذلك، فليس أمامنا في لبنان إلا الوحدة في مواجهة هذا الواقع الذي لن يجد سبيلاً سهلاً يسلكه لتغيير صورة البلد ولا يملك المعطيات العملية للتغيير من الداخل، وإن كان يضغط ويهول من بعيد بالقرارات التي يمكن أن تشكل حالاً تراكمية في الحسابات ولكنها أعجز من اختراق حال الصمود والثبات الداخلي... إننا في الوقت الذي لا نهون من إمكانات أميركا وأوراقها، إلا أننا نعرف في المقابل أن ثمة إمكانات كبرى وطاقات ضخمة في الأمة إذا أحسنا توظيفها وتحريكها نستطيع من خلالها أن نعيد الحسابات الأميركية والإسرائيلية إلى نقطة الصفر، لتبدأ محاولات تغيير الواقع القائم من جديد وبآفاق وطموحات جديدة
إقرأ أيضا لـ "حمد الغائب"العدد 1351 - الخميس 18 مايو 2006م الموافق 19 ربيع الثاني 1427هـ