العدد 1351 - الخميس 18 مايو 2006م الموافق 19 ربيع الثاني 1427هـ

أزمة السلطنة العثمانية وفشل محاولات تحديثها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في العام 1815 دخلت أوروبا مرحلة جديدة في تاريخها المعاصر. ففي ذاك العام عقد «مؤتمر فيينا» لبحث مصير القارة بعد هزيمة فرنسا (بونابرت) في معركة واترلو.

شكلت قرارات المؤتمر نقطة تحول في تاريخ أوروبا إذ اعتبرت بداية جديدة في علاقات الدول المعاصرة. فالمؤتمر درس الخلافات الحدودية وأعاد توزيع الأراضي وأسس صيغة حديثة للتفاهم الدولي. وهذا الجديد في تاريخ علاقات الدول أسعف القارة على ترسيخ هدنة طويلة دامت إلى العام 1848.

أوروبا بعد «مؤتمر فيينا» ستتحول في علاقاتها الدولية من ساحة تشهد الحروب والنزاعات والانقلابات إلى قارة مستقرة نسبياً في سياق تطوري اكتسب القوة والخبرة والعلوم. والمؤتمر كان نقطة تحول بين تاريخ صاعد تقوده أوروبا عالمياً وتاريخ آخر يحاول اللحاق بأسباب التقدم لكنه يلقى الفشل ويتطور باتجاه المزيد من الالتحاق بالغرب.

في فيينا 1815 اكتشفت أوروبا الحديثة نفسها ووضعت قواعد مختلفة لعلاقات الدول وصاغت تصوراتها وفق مقاييس معاصرة تناسب هيئتها السياسية وتنسجم مع نتائج التقدم الذي حققته على المستويين العمراني والمعرفي. فبعد المؤتمر ستشق أوروبا طريقها المستقل في إطار توازن دولي جديد للقوى سيؤدي لاحقاً إلى المزيد من اضعاف السلطنة العثمانية مقابل نمو الحاجة الأوروبية إلى إعادة تأسيس الدولة المعاصرة في إطار مفهوم قومي.

هذا التطور في مفهوم الدولة ونقلها من إطار المدينة أو الولاية أو الدوقية أو الامبراطورية إلى إطار قومي سيفجر في دائرة السلطنة مجموعة ثورات وطنية تطالب بالاستقلال أو الانفصال أو تقرير المصير. كذلك سيلعب هذا النوع من الدول (أو التفكير القومي الجديد) دوره المركزي في التأثير على عقل النخبة العربية وسيسهم في تفكيك السلطنة وبعثرتها إلى قوميات متناحرة، بعد أن كان الدين (الإسلام) يشكل الإطار التاريخي (المظلة السياسية) والرابط الشرعي لكل الجماعات الأهلية الممتدة في المنطقة العربية.

التحولات المذكورة لم تكن بعيدة عن أنظار السلطنة فهذه الدولة الكبرى التي تأسست في زمن سابق ومختلف عن نشوء الأمم المعاصرة أدركت مبكراً أن هناك متغيرات بدأت تطرق أبواب القارة الأوروبية. ومنذ تلك الأوقات لجأت إلى استدراك الموقف مستخدمة مختلف الاساليب الممكنة والمتوافرة لإعادة تأسيس نفسها ومواجهة الضغوط الأوروبية. المحاولات نجحت في إطالة حياة السلطنة إلا أن وتيرة التقدم كانت ابطأ من سرعة أوروبا في التطور. وهذا ما أدى إلى نمو فجوة زمنية بين التاريخين أسهم لاحقاً في انكسار السلطنة وانهيارها في مطلع القرن العشرين.

الشعور بالحاجة إلى التقدم المتمثل في تكرار محاولات التحديث العثمانية لم يكن رد فعل على حملة بونابرت على مصر وبلاد الشام كما تذهب بعض التحليلات الخاطئة. فالمحاولات قديمة لكنها تصادفت في لحظة دولية مفارقة عطلت إمكانات النمو المستقل عن هيمنة قارة نجحت في اكتساح جغرافيا العالم.

الإحساس بالضعف

احساس السلطنة باشتداد المنافسة الأوروبية بدأ منذ عهد محمد الفاتح. فبعد نجاح هذا السلطان في فتح مدينة القسطنطينية (اسطنبول) استفاد من الزخم النفسي - السياسي الذي كسبه شعبياً ليقوم بإعادة تنظيم الإدارة والرقابة في العام 1481 (886هـ). وتؤكد هذه المبادرة ان محاولات الإصلاح كانت استجابة لحاجة داخلية ورد فعل على تحديات أوروبية بدأت في غرب البحر المتوسط. الا أن محاولة محمد الفاتح الجادة جاءت متأخرة أكثر من 81 عاماً على الاكتشافات الجغرافية التي حققتها البرتغال وإسبانيا في إفريقيا وما وراء رأس الرجاء الصالح.

بعد هذه المحاولة المبكرة بدأ الوهن يتسلل إلى السلطنة العثمانية بين 1648 و1795، حين نمت إلى جوارها وعلى حدودها الأوروبية قوى سياسية عرفت كيف تستفيد من ذلك الضعف وتوسع نفوذها إلى أراضيها. وبرزت في تلك الفترة ثلاثة مراكز استقطاب أوروبية: شرقي (روسيا) وغربي (النمسا وبروسيا) وشمالي (السويد). واضطرت فرنسا وبريطانيا إلى التحرك مراراً والتدخل أحياناً لحماية مصالحها وحفظ التوازن بين القوى الثلاث.

يمكن اعتبار فشل حصار فيينا في (يوليو/ تموز) 1683 نقطة البدء في تراجع هيبة السلطنة. فقد نجح النمسويون بدعم من الجرمان والبولنديين في فك الحصار وضرب المواقع العثمانية. وكان هذا بداية تراجع القوات المسلمة عن أوروبا الشرقية.

وشكل الفشل العثماني بداية جديدة لنهوض أسرة هابسبورغ وسيطرتها على النمسا - هنغاريا ثم تقدمها العسكري في أراضي السلطنة في الفترة الممتدة من 1699 إلى 1740. وترافق مع الهجوم النمسوي - الهنغاري حصول حملات عسكرية متبادلة ووقوع صدامات مسلحة وصراع على النفوذ بين بروسيا والنمسا وروسيا وبولندا للسيطرة على مناطق السلطنة، وامتدت تلك المناوشات على تقطع بين 1757 و1762.

الممانعة العثمانية

الا أن التراجع العثماني التاريخي لم يحصل بسهولة ومن دون ممانعة لمحاولات تبني النموذج الأوروبي، وكذلك من دون مقاومة لمحاولات السيطرة الأوروبية الاطلسية. فقد مرت السلطنة خلال تلك الفترة بمراحل هبوط وصعود أملتها ظروف حروبها الخارجية أكثر من تطور علاقاتها الداخلية.

ومنذ مطلع القرن الثامن عشر بدأت السلطنة تكتشف التقدم الأوروبي وتحاول التعرف عليه والاقتراب منه مدفوعة أساساً بالضربات الخارجية التي وجهتها روسيا القيصرية والامبراطورية النمسوية - الهنغارية، وأحياناً بسبب تمرد ولاتها في مناطق بلاد الشام ومصر. ونتيجة الاضطراب الداخلي والصعوبات الخارجية نمت الحاجة إلى «التقدم» بأية وسيلة ووفق أي أسلوب. وظهرت الأفكار والتصورات في إدارات السلطنة وأجهزتها. واخذت من هناك تتبلور أطروحات التحديث والتطوير ليعاد صوغها وفق حاجات الجبهة العسكرية على الحدود أو لضبط تمرد الولايات العثمانية ضد المركز (اسطنبول).

في مطلع القرن الثامن عشر حاول أحمد الثالث (1703 - 1730) القيام بمحاولة إصلاحية فأخذ يضعف سلطة الجيش التقليدي (الانكشارية) ويضغط على العلماء ويهمش دورهم في صوغ قرار السلطنة. وانتهت محاولة السلطان أحمد الثالث في استلهام نموذج أوروبا إلى الفشل (ارسال الوفود لزيارة العواصم الأوروبية والاطلاع على تجربتها) فاصطدم بالجيش والعلماء وقامت الانكشارية بثورة مضادة أطاحت به.

يعود فشل أحمد الثالث في تجربته إلى عاملين: الأول الاستقرار النسبي لوضع الجبهات العسكرية (فترة سلم مع الروس امتدت بين 1647 و1768) وعدم الشعور بالحاجة إلى تنظيم عسكري جديد. الثاني، الفشل في تكييف التجربة الأوروبية وفق نموذج الدولة الإسلامية واختلاف تطور كل من التجربتين التاريخيتين عن بعضهما. وساهم العامل الثاني في توسيع جبهة أعداء السلطان وإرباك خطواته.

وأهم ما فعله أحمد الثالث آنذاك انه نجح في إدخال الطباعة الحديثة إلى اسطنبول منذ العام 1727، وهو موضوع كان له تأثيره الكبير على مسائل النشر في أرجاء السلطنة لاحقاً. والتقط هذه المسألة السلطان محمود الأول فقام بعده بسلسلة إصلاحات اقتصرت على شئون الإدارة وتنظيم الدولة وتسليح الجيش بمعدات حديثة وتدريبه بمساعدة خبراء، والانفتاح على الفكر الأوروبي وتياراته. وساعده في الأمر تجدد الحرب مع روسيا (1768 - 1774) وضغوط الجبهة العسكرية على علاقات السلطنة الداخلية وتوازن قطاعاتها.

اضافة إلى هذا العامل الخارجي (العسكري) حصلت في فترة محمود الأول سلسلة تحركات انشقاقية عن جسم السلطنة بدأت في مصر وبلاد الشام، وكادت ان تتحول إلى ظاهرة انقسامية داخلية هددت مراراً وحدة الدولة وقدرتها على التحرك ومواجهة الحملات الخارجية. فقد شعر بعض حكام الولايات العثمانية أن الضعف اخذ يمتد إلى جسم الدولة وأنها عاجزة عن حماية نفسها ولا وقت لديها للتصدي لهم.

وتطور خطر الانقسامات الداخلية عندما عقد والي عكا ظاهر العمر اتفاقاً مع الفرنسيين في العام 1753، الأمر الذي حرّك مشاعر الخوف في اسطنبول فعقدت العزم على تحطيمه وخصوصاً عندما اتصل مع علي بيك في مصر.

وكان علي بيك سعى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى التحالف مع روسيا القيصرية بصفتها الطرف المباشر في الصراع مع السلطنة، وهو أمر اعتبرته اسطنبول أيضاً من المسائل الحساسة التي لا يجوز التهاون معها، فأرسلت أسطولها وضربت المحاولتين دفعة واحدة.

إلا أن محاولات التمرد لم تتوقف إذ سرعان ما ستبرز عكا من جديد كطرف معاند ومستقل في أيام أحمد باشا، وستعود مصر إلى الظهور كقوة إقليمية كبرى في المنطقة في عهد محمد علي وابنه إبراهيم باشا.

وتدل محاولات التمرد في الولايات العربية في تلك الفترة (في عهديّ محمود الأول وعبدالحميد الأول وصاعداً) على مسألة مهمة وهي ضعف السلطنة البنيوي وبداية هبوطها التاريخي الذي بدأ في الأطراف والأقاليم قبل ان يصل الانهيار لاحقاً إلى المركز (اسطنبول).

وشكل اختلال ميزان القوة مع الخارج نقطة ضعف للسلطنة في الداخل وخصوصاً وقت الحروب وتراجعها العسكري في الكثير من المناطق. فالانقسام كان يتكرر في اللحظة التي يشعر فيها حكام الولايات بضعف السلطان وانشغاله في الحروب الخارجية وتقلص الرقابة المركزية.

تجددت الانقسامات عندما اندلعت حرب 1787 - 1792 مع روسيا في عهد السلطان عبدالحميد الأول (1774 - 1789)، إذ ارتفعت دعوات الإصلاح تحت مطرقة الضغوط العسكرية الخارجية. ودخلت فرنسا على الخط وأخذت ترسل البعثات المهنية والتدريبية لتقوية عود السلطنة وتصليب المواجهة ضد ضربات الامبراطورية القيصرية. فالحماس الفرنسي جاء لتطويق تيارات «سلطانية» نشأت في تلك الفترة وأخذت تدعو إلى تبني «النموذج الروسي» في تحديث الدولة وأجهزتها وتطوير الجيش ومعداته.

لاقت دعوات «التحديث» التجاوب المطلوب من السلطان سليم الثالث (1789 - 1807) الذي وصل إلى الحكم في وقت واحد مع الثورة الفرنسية في 1789، التي رفعت شعارات إنسانية وجد فيها العلماء محاولة اقتراب من روح الإسلام وجوهره. استغل السلطان سليم الثالث الانفتاح الداخلي على شعارات الثورة وعداء ا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1351 - الخميس 18 مايو 2006م الموافق 19 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً