العدد 1351 - الخميس 18 مايو 2006م الموافق 19 ربيع الثاني 1427هـ

نموذج لإسلام «تقدمي» ...أم مذهب لـ «أهل كوالالمبور»

عبدالوهاب الأفندي comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

عبدالوهاب الأفندي

خلال زيارة قمت بها حديثاً لماليزيا للمشاركة في مؤتمر دولي عن الإسلام والسياسة، أجريت معي مقابلة صحاف 

وقد أقررت محاوري على شكوكه هذه، لكنني أضفت أن محاولات إيجاد فهم للإسلام عن طريق الحوار مع غير المسلمين كانت هي القاعدة لا الاستثناء خلال القرون القليلة الماضية، بل ربما منذ صدر الإسلام. وينصرف هذا على المسلمين المحافظين وعلى من يسمون بالليبراليين، كما ينطبق على المسلمين ذوي التوجهات المحافظة في ماليزيا أكثر من غيرهم في أي مكان آخر على سطح البسيطة. وخلال زيارتي هذه لماليزيا وجدت قادة الحزب الإسلامي الماليزي وانهمكوا في التودد للناخبين غير المسلمين في بلادهم، وذلك بالتأكيد مجدداً على خطابهم السياسي الذي يؤكد نبذ الإسلام للتمييز على أساس العرق أو اللون. وكانوا بذلك يوجهون لطمة إلى سياسة الحكومة الماليزية التي تعطي الأفضلية للملايو من سكان البلاد الأصليين الذين يعانون أوضاعاً اجتماعية أسوأ كثيراً بالمقارنة بأبناء الجالية ذات الأصول الصينية الأكثر ثراء.

ويقول قادة الحزب الإسلامي الماليزي إن هذه السياسة، التي وفرت الاستقرار السياسي لهذه الأمة متعددة الأعراق وضمنت العدالة في توزيع ثمرة الرخاء الاقتصادي المتزايد هناك كما لو لم تكن قد طبقت، يقولون إن هذه السياسة تنافي تعاليم الإسلام لأنها تقوم على التمييز بين أبناء البلاد على أساس العرق. لكن هؤلاء لم يبلغوا الناخبين أنه لو كان الدين هو العيار في التعامل مع أبناء الأمة (وجميعهم مسلمون) لكانت هذه السياسة تتطابق مع الإسلام حقا.

لكن ليس لهذا صلة بموضوعنا. فما يهمنا هو أن الحزب الإسلامي الماليزي لم يجد غضاضة في أن «يتفاوض» بشأن برنامجه الإسلامي مع غير المسلمين. وقلت لمحدثي إنه لا غبار على ذلك. فالمسلمون في واقع الأمر مكلفون أن يتحدثوا إلى ابناء الديانات الأخرى. والشيء المهم هنا ليس فكرة الحوار في حد ذاتها، ولكن ما يتمخض عن هذا الحوار من ردود.

فجميع المجتمعات المسلمة تواجه اليوم أسئلة ملحة نشأت نتيجة التعايش بين المسلمين وغير المسلمين. ويجب علينا ان نضيف هنا أن المجتمعات البشرية المعاصرة تواجه أسئلة من هذا القبيل بدرجة أو بأخرى. وأحد مظاهر حياتنا المعاصرة هذه هي انه بات من المستحيل على أي مجتمع ان يعيش بمعزل عن باقي المجتمعات. فحتى المجتمع الأفغاني الذي تأخذ التقاليد بتلابيبه، بل وفي بورما أو كوريا الشمالية اللتين تتسم مجتمعاتهما بالتمرد على المألوف لن يتسنى للسكان أن ينعزلوا عن التفاعل مع المجتمعات الأخرى. وعندما تطلع الشعوب على أنماط معيشية أخرى أو رؤى عالمية مغايرة لما تعتقده، فإن ذلك سيترك أثره حتى على نظرتها التقليدية جداً إلى العالم. وربما يكون هذا هو السبب الذي لأجله تحرص الحركات الإصلاحية الحديثة بل والجماعات السلفية ذات النظرة التقليدية على أن تعبر عن مواقفها بشكل قد يستعصي على فهم السلف أو أجيال المسلمين الأولى. فعلى جميع أبناء الجماعات المعاصرة أن يبلوروا رؤى ووجهات نظر عن قضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والتجارة الحرة والعلاقات بين أبناء مختلف العقائد. وهم في هذا يدخلون في حوار مباشر أو غير مباشر مع مجتمعات أخرى وعادات وتقاليد أخرى.

ويصبح هذا الحوار أكثر إلحاحا في الدول متعددة الأعراق والأديان مثل ماليزيا حين يكون تحديد الأماكن ذات الاستخدام العام في حد ذاته حوارا مع الماليزيين غير المسلمين. بل إن الأمر يكون أوضح (أيضا في ماليزيا) ولكن كذلك في دول أخرى مثل نيجيريا أو السودان حينما يتعلق بجماعات تنشط في تطبيق برنامج لإعادة صبغ أوجه الحياة في المجتمع بالصبغة الإسلامية وهو ما قد يؤثر على السكان المسلمين وغير المسلمين في تلك المجتمعات التي يتعايش فيها المسلمون وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى. بل إنه في بعض الحالات تكون هناك خلافات عميقة بين أنصار تيار أسلمة المجتمع انفسهم بشأن أمثل السبل التي يتعين اتباعها لتحقيق هذا الهدف.

في ماليزيا، دفعت الحملة التي قادها الحزب الإسلامي لتطبيق اجراءات أسلمة المجتمع من قبيل (واحينا بشكل أساسي) إقامة الحدود الإسلامية في الولايتين اللتين يسيطر الحزب عليهما، دفعت، إلى الواجهة بقضايا تتعلق بأولويات المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فالحزب الحاكم وهو حزب المنظمة القومية الماليزية المتحدة يقول إن تطبيق هذه الحدود لا يمثل الأولوية بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي الذي يجب عليه أولاً أن يحافظ على استقلاله السياسي والاقتصادي. ويقول الحزب الحاكم إن الأولوية يجب ان وتكون للتنمية، وإن أي إجراءات قد تضر بالتعايش السلمي في المجتمعات ذات التعددية الدينية تعوق جهود التنمية وتجعل المسلمين يعتمدون على الدول الأخرى. ومن شأن هذا أن يجعل من برامج أسلمة المجتمع التي تبنتها الأحزاب الإسلامية مثار سخرية.

لم نكن في ماليزيا لبحث هذه القضايا، إذ كان تركيزنا منصبا على المسألة الأكثر شمولا المتعلقة بالسياسة في المجتمع المسلم المعاصر، لكن هذه القضايا ظلت على رغم ذلك تلاحقنا وتلح على ايجاد اجابات شافية لها. وفي هذا الصدد لم يكن وجود أشخاص غير مسلمين من بين المتحدثين في المؤتمر وبين الجمهور المشارك فيه يثير نوازع القلق لدينا، ولم يعق المناقشات بأي حال. بل إنه أسهم في اضفاء جو من الايجابية عليها، إذ إن الهواجس التي تدور في خلد غير المسلمين هي من العناصر الأساسية التي حددت الاجابات التي كنا نبحث عنها للقضايا مثار النقاش.

إن اجتماع ماليزيا الذي بات يعرف بـ «صيغة كوالالمبور حول الإسلام» أو اختصارا (كاليف) القريبة النطق في الانجليزية إلى لفظ خليفة، والأمر الذي أثار جدلاً كبيراً... أقول إن اجتماع ماليزيا يعتزم أن يطرح نفسه بوصفه منتدى منظما لبحث ومحاولة التوصل إلى اجماع عن القضايا الكبرى، وذلك بشكل دقيق. إن ثمة اتفاقا عريضا بين المثقفين والعلماء المسلمين ورجال الدولة على أنه لم يعد بالإمكان تجاهل هذه القضايا أو غض الطرف عنها. إذ إن ترك هذه القضايا من دون حل كانت له عواقبه الوخيمة على استقرار الدول الإسلامية، وصورة المسلمين في العالم، وترك ذلك الباب مفتوحا أمام المتطرفين وجميع صنوف المهووسين للسطو على أجندة العمل الإسلامي وجر العالم الإسلامي بأسره إلى حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

لكن من شأن اجتماع مثل هذا أن يطرح السؤال الذي لا مناص منه وهو: بأي حق يمكن للجماعة التي نظمت المؤتمر أن تتحدث باسم المسلمين؟ ويزداد الأمر تعقيداً عندما يصبح الهدف المعلن لهذه المجموعة هو الترويج لـ «إسلام تقدمي». ويجب ان اعترف ان لدي شخصياً شكوكا عن هذه المسميات، إذ إن تسمية الشخص نفسه بأنه «تقدمي» أو «ليبرالي» يعني ضمنا وصف خصومه بأنهم «رجعيون» أو غير ليبراليين، وذلك بالطريقة نفسها التي يصم فيها من يعتبرون أنفسهم مسلمين «حقيقيين» منتقديهم بأنهم أقل إخلاصا للإسلام. ويمكن الالتفاف على هذه المشكلة باللجوء إلى الطريقة التقليدية في التمييز بين المذاهب (مثل المذهب المالكي أو الشافعي) أو باعتماد المدرسة الفقهية مثل «مذهب أهل الكوفة» أو «مذهب أهل البصرة». وعندئذ: هل يمكننا الحديث عن أننا بصدد مذهب أهل كوالالمبور مثلا؟ ربما.

ولعل هذ ا يقودنا إلى الإجابة عن السؤال الأصلي عن حق جماعتنا في التحديث باسم المسلمين، وهي في الواقع إجابة بسيطة للغاية. فكل شخص أو جماعة حر في أن يقول ما يؤمن به أو تؤمن به.

ويمكن لجميع المسلمين أن يطرحوا تصوراتهم ورؤاهم عن الأمور التي تهم الأمة. وعلى باقي الأمة ان تزن هذه الرؤى والتصورات إما باعتمادها أو برفضها. وفي هذا الخصوص فإننا نقف على أرض صلبة بمحاولة الترويج لفهمنا للإسلام لدى من يمكن ان يقبلوه ويؤمنوا به، لكن شريطة أن نتفق نحن على تصور مشترك وأن يكون الطلب على هذا التصور متاحا في سوق تنافسية مفتوحة نسبياً.

(ملاحظة: المقال ينشر بالتعاون مع المنبر الدولي للحوار الإسلامي - لندن

إقرأ أيضا لـ "عبدالوهاب الأفندي"

العدد 1351 - الخميس 18 مايو 2006م الموافق 19 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً