قد يسوغ لي أن أطلق عليها حالاً نادرة جدا في تاريخ المسلمين الشيعة، تلك التي حدثت بعد تسلم الشاه طهماسب أمر المملكة بعد أبيه الشاه إسماعيل في القرن العاشر الهجري، إذ «جعل أمر المملكة بيد عالم العصر المحقق الثاني الشيخ علي عبدالعال، فقام الشيخ بتعيين الأئمة للصلاة، والمدرسين في المدارس، والوعاظ لبث المذهب ونشره»، كما ذكر الأمين في كتابه «الأعيان» (ج11).
لقد قام الشيخ بتعيين أئمة الصلاة والمدرسين في المدارس، بينما الحال السائدة في تاريخ الشيعة، رفض الحوزة العلمية لتدخل الدولة المباشر حتى في شئون الدرس، فضلا عن شئون المسجد والصلاة، وما قام به الشيخ المحقق هذا ربما يعود لكونه فقيها متصديا للشأن العام، وبه يناط تقييم الوضع والحاجة.
نعم، قد يتسلم المرجع الديني مالا من الدولة، ويقوم بتوزيعه على طلاب العلم وغيرها من الشئون، ولكن لم يشهد التاريخ الشيعي القبول بتدخل الدولة وبتلقي طالب العلم معاشا بشكل مباشر منها نظير حضوره للدرس أو إمامته الصلاة، ومن ثم جعله موظفا وفق شروط و«وصف وظيفي» معين.
ومن الناحية التاريخية، فإن تدخل الدولة المباشر في عامة شأن العلماء والتعليم الديني والمسجد، قوبل بالرفض الشديد في بداية الأمر من جميع المذاهب الإسلامية، وقد يكون لهذا التحسس علاقة وصلة قوية بالتوجسات من الحكم وتدخلاته في التأثير على نزاهة مواقف العلماء واستقلاليتهم، إلا أنه ومع الزمن تقلصت المعارضة لدى بعض المذاهب إلى أدنى حد. فعندما تدخلت الدولة العباسية في شأن التعليم الديني، وبدأ الوزير نظام الملك بافتتاح المدارس النظامية (نسبة إلى اسمه) في القرن الخامس الهجري، كان موقف الكثير من العلماء السنة رافضا لتبني الدولة التعليم الديني والإشراف عليه، «وذلك خوفا من أن تفرض (الدولة) الأدعياء والدخلاء على التعليم فيفسد».
وكانت أول مدرسة أنشأها نظام الملك في بغداد سنة 459هـ، خص بها كبير فقهاء الشافعية، أبي اسحق الشيرازي (توفي سنة476هـ)، ولكن في يوم الافتتاح، انتظروا مجيئه فتأخر، فطلب فلم يجدوه، كما ذكر ابن الأثير في «الكامل في التاريخ»، وما يذكره ابن الجوزي في «المنتظم» (ج8).
ويرى الكاتب التركي الأصل مصطفى عبدالله والملقب بحاجي خليفة (توفي 1078هـ) في كتابه «كشف الظنون»، الذي يعد أوسع عمل ببليوغرافي عرفته المكتبة الإسلامية حتى العام 2000: «أن العلماء والفقهاء كانوا بين آسف ومستنكر ورافض...»، إلى أن قال: «ولما بلغهم (أي العلماء) بناء المدارس في بغداد، أقاموا مأتم العلم وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل...».
ويرى بعض الباحثين الكبار، أن من أهداف تدخل النظم السياسية في شئون المسجد والعلماء والتعليم الديني، مواجهة الخصوم على أسس فكرية وتربوية، وذلك لتخريج علماء يؤثرون في العامة، ولكن بعد أن أصبح التعليم الديني وشئون العلماء والأئمة وشئون المسجد بأيدي الدولة، تم فصل الكثير ممن خالفوا السلاطين كما يحدثنا التاريخ، والكثير من العلماء التزموا الصمت عن قول كلمة الحق بعد أن ارتبطت حياتهم بالراتب الرسمي، بالضبط كما يحدث لأي موظف آخر. لذلك سيبقى مجرد كلام نظري أقرب إلى الخيال ما طرحه البعض من انه لن يخضع للإملاءات الرسمية، وإنه لن يعتبر نفسه موظفا لدى الدولة، لأن الشخص ينزع تلقائيا للمراقبة الذاتية لتجنب ما يقود رب عمله لحرمانه من العمل والمعاش، خصوصا إذا أصبح مصدر رزقه الوحيد، فكيف بمن سعى إلى الكادر نتيجة الحاجة المادية؟
وربما يرجع رفض العلماء من ناحية تاريخية لتدخل الدولة في شئون العلماء والمسجد، لتحول الخلافة إلى ملك عضوض، وإلا ففي عصر الإمام علي (ع)، إذ كان ولاته من العلماء الفقهاء عادة، كان يوجههم بالتصدي لتعليم الناس شئون دينهم وإقامة العبادات بهم، ففي كتاب له إلى واليه على مكة، قثم بن العباس (أخ الصحابي الشهير عبدالله بن العباس): «أما بعد، فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفت وعلم الجاهل، وذكر العالم...».
ولا يمكنني الزعم بحصر مواقف فقهاء المذهب الجعفري تجاه تدخل الدولة في الشأن الديني لمجرد التوجسات من السلطة، بل ربما هذا يرجع لقواعد فقهية استمدوها من أئمة أهل البيت النبوي الشريف، وموقف الإمام الصادق (ع) الرافض حتى لإكراء صاحبه صفوان الجمال إبله لهارون الرشيد تعكس هذا التوجه، وتؤسس له بقوة، ولكن الفقهاء كثيرا ما يرجعون مواقفهم لتدخل الدولة للخوف من حدوث مفسدة على الإسلام.
واستمرت الممانعة من قبل أئمة المذهب الشيعي لتدخل الدولة، وازدادت تشددا مع الشواهد الحية في التأثير السلبي لتدخل الدولة في شئون العلماء كما يحدث في الكثير من الدول الإسلامية، إلى حد إقالة واستبدال المئات من أئمة المساجد دفعة واحدة في إحدى الدول حديثاً.
هذه الممانعة انعكست في الأحكام الفقهية، لتؤسس لها فكريا، فمثلا يحرم السيد الخميني في كتابه «تحرير الوسيلة» الدخول في مؤسسات الدولة الدينية كالمدارس مثلا، ويحرم أخذ الراتب حتى من المدرسة الدينية القديمة ومن أوقاف هذه المدرسة ما دامت الدولة وضعت يدها عليها (المسألة 13 و14، القول في أقسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ورفض علماء المذهب الشيعي تدخل الدولة كان رفضا عاما، سواء كان المذهب الرسمي للدولة سنيا أو شيعيا، فالموقف نفسه اتخذوه حتى في الدول الشيعية عبر التاريخ، وتواصل الموقف حتى العصر الراهن، فيرفض المراجع تدخل الدولة وإن أصبح الحكم دينيا، إذ يجمعون في إيران مثلا، على فصل الحوزة وشأن العلماء عن الدولة مباشرة، مع أن أكثرية فقهاء إيران يؤمنون بنظرية «ولاية الفقيه المطلقة» كنظرية سياسية للحكم تفرض عليهم الطاعة للولي الفقيه.
واستمرت الحوزة العلمية في الاعتماد على الأخماس والتأكيد على استقلال المؤسسة الدينية وتوابعها واستبعاد تأثير الدولة، باعتبار أن هذا يقلل فرص انحراف العالم وانسياقه وراء مشتهيات الأنظمة إذا تعاطى مباشرة معها، وساهم ذلك في جعل التفاعل بين العالم والناس تفاعلا حقيقياً، إذ انتفت على إثره عوائق الجرأة للتعبير عن مشكلات الناس. كذلك، ظل طالب العلم مرتبطا بالمرجعية الدينية، لا يمتلك حق الإفتاء في الشأن العام إلا بالرجوع إليها، ما يضمن حفظ النظام العام وصيانته من العبث الذي نشاهده نتيجة كثرة المتصدين للفتيا في بعض الدول الاسلامية.
ومن الشواهد القريبة، ما قام به السيدحسين الشامي قبل سنتين، وهو رجل معمم، وكان يشغل وظيفة رئاسة ديوان الوقف الشيعي الذي تم تشكيله بعد انتهاء حكم صدام حسين في العراق، إذ قدم مشروعا لدفع رواتب منتظمة لطلاب العلوم الدينية وأئمة الجماعة، فوقف السيدالسيستاني موقفا متشددا وقال بخطورة هذا المشروع، وبالتالي أبطله تماماً.
أخيرا، فإن مثل هذه المسائل الكبيرة تحتاج إلى التداول مع فقهاء البلد، فالمسألة ضاربة في الجذور، وليس من العقل فرض الأمر بالتعسف والقوة، وإن شن الحملات الدعائية على كبار العلماء المتصدين للشأن العام في صحف محسوبة على الجهات الرسمية تزيد من التواجس وتؤكد الشكوك في الدولة، وخصوصا إذا تواكب ذلك مع إطلاق أيدي الطائفيين والتكفيريين بلا وقفة ولا محاسبة، في الوقت الذي يتم التضييق باسم القانون على الطرف المستهدف ومحاولة فرض مشروعات السلطة عليه قسراً
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1351 - الخميس 18 مايو 2006م الموافق 19 ربيع الثاني 1427هـ