ثقافة شوارع... أولاد شوارع... تربية شوارع... منطق شوارع. في الوقت الذي لن نصل إلى البيت... المدرسة... العمل... المسجد... أماكن اللهو... إنقاذ شخص ما... لن نفيء بمواعيدنا... لن تكون علاقاتنا العاطفية والإنسانية بخير، ما لم نجتز تلك الشوارع في نهاية المطاف.
والزعيم يجيش أنصاره للنزول إلى الشارع، فيوهم نفسه أنه حقق انتصارا ما، يأوي الى بيته، فيما السواد الأعظم بلا مأوى حقيقي، ويكتشف أن مكانه الوحيد هو العراء... الشارع.
استهلكنا سنوات من لعن تلك الشوارع، في الوقت الذي ظلت هناك تنتظرنا كي نعبر اليها لاستمرار حراكنا الانساني. على من تقع اللعنة بعد ذلك؟.
الشارع عربيا «شتيمة» ما دمت في استوديو للتسجيل، أو في مكتبك المطل على البحر، أو في ناد صحي، على رغم أنك لم تهبط بمظلة، وحتى لو حدث ذلك، لن تهبط على الماء، ستهبط على الأرض، والشارع جزء من الأرض. كأنك بذلك تمارس فعل اللعنات على نفسك كل يوم، كلما رأيت في الشارع مكانا عالة على اليابسة، طالما انك في غرفة نومك. مثل ذلك النظر يكشف عن أن أولاد الشوارع لدينا أكثر من أولاد «الذوات»، أليس كذلك؟.
فيروز غنت للشارع، وشعبان عبدالرحيم لم ينسه، لأنه أتى منه، ومن قبله أحمد عدوية، الذي لم يتنكر له، وفيفي عبده تذكّر نفسها دائما بأنها ابنة شوارع، بدليل أن السيناريست أي سيناريست لا يرى جدوى في دورها ما لم تجلد المشاهدين بقاموس «شوارعي»، باتوا يحفظونه عن ظهر قلب. الفرق أن فيروز حقنت مزيدا من الشعرية في شرايين الشارع، إذ بات مع صوتها لا يقل حميمية عن قاعة للجلوس، أو حتى غرفة نوم، فيما الآخرون ظلوا يسيئون اليه بأدوارهم، ومكياجهم، وحواراتهم، وملابسهم، ورفاهيتهم المفتعلة، على رغم أنهم أدوا تلك الأدوار كي يعيدوا الاعتبار اليه.
لا تحتاج الى استئذان الشارع كي تعبر من خلاله. تماما مثل عدم حاجتك الى طرق الأبواب اذا ما كانت «مشرعة». الأبواب المشرعة إيذان لك بالدخول، أو هي قرع تم انجازه بالنيابة عنك، والشارع لا يضيق ذرعاً بالآلاف التي لن تخنقه ليس لأنه من دون رئة بل سيضيق حين يحسب كل واحد من المزدحم بهم، أن الملاصق له عمد إلى مصادرة حصته من الهواء. لحظتها يكون الشارع أرحب وأسمح وأكثر سخاء وحفاوة من الذين يلعنونه.
في مصادرة الحرية... في الحبس... في المصعد الذي تعطل فجأة... في الباخرة التي يكاد يبتلعها البحر... في الطائرة التي تكاد تهوي، يحضر الشارع الفسيح الذي اعتدنا المرور عليه بشكل يومي، يحضر كأنه أحد الأقارب. هو نفسه الذي حين نريد الإمعان في إهانة أحد، أو إسقاطه، أو تجريده من كل خلق وشرف، نصمه وننسبه اليه!. ويحق للشارع بعد ذلك أن يعتز بصفته إزاء سقوط بهذا المستوى!.
في الكلام على أبناء الشوارع، ألا يكشف ذلك عن أن الشوارع تلك أكثر انسانية وشعورا من بعض الذين يلعنونها؟ بدليل انها لم تتبرم يوما من الذين يتخذون من أسافل الجسور، وزوايا الأنفاق، والسكك المهجورة، مضاجع لهم، في الوقت الذي لا مكان لهم بين بني جنسهم!.
كل جمعية سياسية تريد أن تستحوذ على دور أو تخطفه، تظل عينها على الشارع. وهذه المرة ليس باعتباره اسفلتا أو زقاقا، بل باعتباره حيزا يفيض بالسطوة، وواحدا من أنجع وسائل الضغط. لكأنها بذلك الحسبان تتعاطى مع الشارع باعتباره وعاءً يمتلئ بوسيلة ضغط... بزحف بشري، يستعرض سطوتها، فيما هي خارج ذلك الدور تنظر الى الاثنين معا على أنهما من نسيج ونطفة واحدة. خصوصا حين يفيض الشارع بعيدا عن آلياتها وتحريضها ودورها وسطوتها. تراه حينئذ مزدحما بأبناء شوارع!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1350 - الأربعاء 17 مايو 2006م الموافق 18 ربيع الثاني 1427هـ