العدد 1350 - الأربعاء 17 مايو 2006م الموافق 18 ربيع الثاني 1427هـ

مكناس مدينة طليقة الأنفاس

أسوار المدينة العتيقة تلوح لي من جديد

أترجم ما ورد في الموسوعة البريطانية عن مكناس: «كانت واحدة من المدن الإمبراطورية الأربع في المغرب»، أسستها في القرن العاشر «غالميلاديف» قبيلة أمازيغية. كانت في الأصل مجموعة قرى وسط غياط (حقول) الزيتون، وصارت عاصمة المغرب العام في عهد السلطان مولاي إسماعيل، الذي بنى قصوراً ومساجد جعلت مكناس تسمى فرساي المغرب.

تدهورت بعد وفاته، واحتلها الفرنسيون العام وهي اليوم مركز تجاري للمنتجات الزراعية، والمطرزات الرفيعة والزرابي.

السكان العام : ألفاً و تقع شمالي وسط المغرب».

بعد استكمال ربيع مراكش ، ورحيل برنار نويل وإيزابلا إلى منزلهما الريفي بفرنسا، واختفاء الآخرين بلا وداع أو سلام، باستثناء محمد بنيس الذي دعاني أنا وأندريا إلى زيارته في منزله بالمحمدية، بين الرباط والدار البيضاء، غير بعيد عن شاطئ البحر أقول بعد استكمال قراءات مراكش، انتقلت بالقطار إلى مكناس، ملبياً دعوة من المعهد الفرنسي، وأخرى من كلية الآداب بجامعة مكناس، كما أن اتحاد كتاب المغرب - فرع مكناس أجرى اتصالاً تمهيدياً معي بشأن لقاء ما.

في محطة قطار مكناس، كان في استقبالنا، أنا وأندريا، سعيدي المولودي من كلية الآداب، ومهدي أمين مكتبة المعهد الفرنسي، وصديق ثالث. «لا بد لي من الإشارة إلى أن سعيدي المولودي أنفق من سني حياته سبعاً، قلب فيها حياتي وشعري تقليباً، حتى صار أعلم بشعري مني!، وقد أثمر جهده المرموق مجلدين من عمل نقدي».

في الطريق من المحطة إلى الفندق، وكان المساء في أوائله، رأيت الشابات والشبان منطلقين في الشوارع والحدائق وهو مشهد صرنا نفتقده في كثير من المدن العربية، كما لمحت، للمرة الأولى، أسوار المدينة العتيقة، عاصمة مولاي إسماعيل... شمس الغروب على الأسوار، والمنارة الراسخة تشق طريقها الدائمة نحو السماء. ماذا أقول؟ كلّما جئتُ واحدة من عواصمنا العربية صليت: ها أنت ذي!

أنت ما زلت حاضرة «مثل ما كنت في كتب الجلد مخطوطة أو مرنحة في الأغاني... السلام عليك»، السلام على من رأى في خرائطك الحلم واستاف في خلجة من هوائك والماء ذاك الشميم المضوّع من جنة؛ ننزل في فندق SIBI(طائر أبومنجل) القائم على هضبة تشرف على المدينة العتيقة، الفندق الذي يواجه مطعماً من سلسلة الماكدونالد لا يرتاده أحد.

بمقدور المرء (كما فعلنا) أن يذهب ماشياً إلى المدينة العتيقة، وأن يرقب الحياة تستيقظ، والتلامذة يمضون إلى المدارس، والعربات تأتي بالنعناع إلى المقاهي سيكون شاي الصباح مفعماً بخير الطبيعة الأولى. الناس في مكناس، لم تستشر في نفوسهم (بعد؟) حمى السياحة، كما هي الحال في مراكش حتى السائحون يأتون إلى مكناس عابرين، إلى الأطلس أو الصحراء... إلخ، يبيتون ليلة أو اثنتين ويغادرون.

الرومان كانوا هنا أيضاً. مدينة رومانية كاملة تقع على مبعدة نحو أربعين كيلومتراً عن مكناس، أخذنا إلى فيلوبوليس وليلي - أظن هذا اسمها - سعيدي المولودي، وحسن مخافي. صرح روماني كامل وموزاييك عجيب. الموزاييك مكشوف لعناصر الطبيعة، وقد يتآكل مع الزمن إن لم يحفظ تحت سقف زجاج أو بلاستيك شفاف.

في الموزاييك كائنات بحرية، وفيل، وآلهة، أبوللو وباخوس وعلى ذكر الأخير يمكن القول بأن أهل مكناس يتباهون بأن لديهم أكبر مستودع للخمور في العالم! هذا من عهد الرومان، يقولون... لم ينقطع إنتاج الخمور في مدينتهم، على مر العصور. الناس على حق. فالكروم تحتل مساحات خرافية، والنبيذ غني، ذو مذاق نادر tenrebaC nongivuaS من أفضل ما يكون.

كان لي لقاء مع طلبة وطالبات كلية الآداب. القاعة ممتلئة كان الاستماع ممتازاً، وقد جرى نقاش مفتوح بعد القراءة كانت الأسئلة ممتازة. ثم كان لقاء آخر في المعهد الفرنسي. قرئت لي أيضاً نصوص بالفرنسية. وقد حضر الأمسية والي مكناس حسن أوريد. عرفت فيما بعد أنها المرة الأولى التي يحضر فيها فعالية من هذا النوع. من المفيد أن أذكر أن تسيير شئون الولاية من مسئولية شخصيتين: عمدة المدينة المنتخب، والوالي الذي يمثل ملك البلاد.

كان لي لقاء آخر مع أوريد، حين كنت ضيفا على مائدته في دار بالمدينة القديمة اتخذت مطعما. جرى حديث لطيف عن الأدب، وكان الرجل يستعيد أبياتا من بدر شاكر السياب وسواه. امتدت الجلسة إلى ما بعد منتصف الليل. أظن أن أهل مكناس محظوظون بالوالي الشاب، المتشرب بروح القرن الحادي والعشرين، إنه ضمانة لمدينتهم كي تظل طليقة الأنفاس.

اللقاء الشعري الثالث كان في المركز الثقافي، وقد نظمه اتحاد كتاب المغرب (فرع مكناس) قدم الأمسية وقدمني كل من أحمد فرشوخ مسئول الفرع، وحسن مخافي. كانت الأمسية ذات جو حميم مع مسحة من المسرح والإيماء. لم يتسن لي وقت كاف لمعاينة الكثير مما تضمه عاصمة عريقة هي مكناس. كان عليَّ، مثلاً، أن أتقرّى بوابة المنصور كما تقرى البحتري النحت البارز في انطاكية:

وإذا ما رأيت صورة أنطاكية

ارتعت بين روم وفرس

وكان عليَّ أن أدخل قبة السفراء حيث كان مولاي إسماعيل يستقبل المبعوثين الدبلوماسيين. ومن هناك أنحدر إلى سجنه الرهيب! وكان عليَّ أن استمتع بالدخول إلى أكبر قبو للنبيذ في العالم... وكان عليَّ أن أدقق في ما يفعله الحرفيون من جمال. لكن مكناس ليست بالصغيرة.

مكناس تحتل مساحة الولاية الكبرى في المملكة المغربية، حتى لتبلغ الحدود الجزائرية! تصدر فيها اثنتا عشرة مجلة. وفي العام صدر فيها نحو خمسين كتاباً. آخر إصدارات مكناس: تاريخ الجنون في القرون الوسطى - ميشيل فوكو! وفي الأطلال الرومانية يقام مهرجان سنوي عالمي للموس

العدد 1350 - الأربعاء 17 مايو 2006م الموافق 18 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً