نظم فرع اتحاد كتاب المغرب بمدينة مكناس - إلى الشرق من الرباط - أخيراً لقاء مفتوحاً مع الشاعر العراقي سعدي يوسف، إذ حضر جمهور غفير من الطلبة والأدباء والباحثين.
الشاعر سعدي يوسف وفي حضرة صمت مهيب قرأ بصوت خافت وموح قصائد منتقاة من تجربته الممتدة، مركزا بالأساس على النصوص المستلهمة للفضاء المغربي وتحديداً من ساحة جامع الفنا بمدينة مراكش ما جعل الجمهور ينجذب بشكل لافت إلى كلماته.
سعدي يوسف خص الجمهور المكناسي بقصيدة «صلاة الوثني» من ديوانه الجديد الذي يحمل الاسم نفسه والتي أهداها للأديب السعودي عبدالرحمن منيف، والتي كان أبرز ما جاء فيها:
يا رب النهر، لك الحمد:
امنحني نعمة أن أدخل في الماء
لقد جف دمي
ونشفت؛ قميصي رمل، وشفاهي خشب
حتى حلمي صار طوافا في مذأبة صفراء
امنحني، يا رب النهر.
كساء النهر،
لك الشكر
لك الحمد
فمن لي غيرك، يا عارف سر الماء؟
اللقاء شهده فتح باب الحوار مع الشاعر من قبل الجمهور، وهو ما كان بمثابة مساءلة التجربة الشعرية ليوسف سعدي والتعرف على بواعثها ومكوناتها وعلاماتها، إذ طرحت أسئلة تهم الوضع الراهن للقصيدة العربية، وأثر المنفى في التجربة والانعكاسات المحتملة لاحتلال العراق على القصيدة والأدب برمته، والموقف من الكتابة الشعرية لأدباء ينتمون للجيل نفسه، وتقييم التجربة الشعرية في المغرب والعراق والعالم العربي.
وكان اللقاء افتتح بعرض مسرحي شعري أعده المسرحي المغربي بوسلهام الضعيف، شخص من خلاله مجموعة من طلبة المسرح عدة لوحات شعرية مستوحاة من دواوين الشاعر سعدي يوسف، على خلفية مقطوعات غنائية وموسيقية تعبر عن لوعة الحنين إلى الوطن، وقسوة الوضع الحالي في العراق موطن الشاعر وموئل تجربته الأدبية الغنية والواسعة.
الشاعر المكناسي أحمد فرشوخ وفي كلمة ترحيبية له باسم أعضاء اتحاد كتاب المغرب بالمدينة وضواحيها، تحدث عن رمزية اللقاء ودلالته الثقافية، مذكرا بأهم الخصائص والعلامات المميزة لتجربة الشاعر في الكتابة والحياة على مستوى موضوعات: المنفى، اللغة، الخيال والسياسة، الموروث والحداثة.
بدوره ذكر الشاعر حسن مخافي، الذي نشط اللقاء، الجمهور بموقع سعدي يوسف ضمن خريطة الشعر العربي الحداثي، عارضاً لتطور تجربته الشعرية وثرائها، مؤكداً الدور الطلائعي لقصيدته في كسر الجمود الأدبي وتثوير بنية القصيدة على مدى أكثر من نصف قرن.
الشاعر سعدي يوسف وفي تصريحات للصحافة ذكر أنه وبعد نصف قرن من الكتابة والتجريب «أجدني لاازال في اللحظة الحرجة، وربما هذا الإحساس المستمر باللحظة الحرجة هو الذي منحني قدرة على الاستمرار في الكتابة، ولربما في محاولة تجديد النص الذي أكتبه»، معتبرا أن «عملية النص الذي ايكتبه تتخذ طابع مراجعة شاملة وقد تستغرق الانتقالة الجديدة عقدا من السنوات، أو أكثر أحيانا».
الشاعر العراقي اعتبر نفسه محظوظا لأنه أتيحت له «فرصة الحياة أكثر من بعض الشعراء مثل بدر شاكر السياب الذي توفي مبكرا، وهناك شعراء آخرون رحلوا مبكرين. هذه الحياة الطويلة أتاحت لي فرصة الاستمرار. ومع السنوات تبين لي أنني لا أملك نشاطية غير الشعر».
وعن المحطات الكبرى التي أثرت في مسيرته الشعرية، ذكر سعدي «في معاينتي لما مررت به، يمكن أن أعتبر أن الفترة الجزائرية، أو ما أسميها الفترة المغربية عموما كانت العملية الأساسية في طبيعة انتقال النص الذي أكتبه إلى أفق مختلف، أفق فيه الكثير من التجريب، وفيه إعطاء مسافة واضحة بين الواقع والنص الشعري، وخصوصاً الواقع السياسي. لقد أصبحت في هذه المرحلة قادرا على مراقبة الأشياء. إقامتي في الجزائر جعلتني أنجو من هول متابعة الحوادث السياسية التي كان يعرفها العراق آنذاك بقسوتها وتفرعاتها. لقد كنت من الجزائر أراقب من بعيد بشكل آلي أن النص نفسه يأخذ منحي آخر. كما أن إقامتي الطويلة في الجزائر أتاحت لي أيضا تحسين لغتي الفرنسية وأخذت اطلع أكثر فأكثر على الثقافة الفرنسية وعلى الشعر الفرنسي. وهذا شيء مهم بالنسبة إلي لأنه أضاف إلى اهتمامي بما ينشر باللغة الإنجليزية اهتماماً بما ينشر باللغة الفرنسية من شعر. وهذه الفترة كانت هي فترة التجريب الحر واتخاذ موقف المراجع».
الشاعر ذكر أن الحقبة العراقية بعد عودته إلى العراق والتي لم يحدث خلالها شيء مهم.، لم تؤثر فيه «لكن عندما خرجت من العراق مرة أخرى العام وحتى الآن أخذت عملية محاولة التجدد صورة مستمرة، غير خاضعة للتحقيب، كأنها مستمرة يوميا تحدث بين قصيدة وأخرى. وحتى الآن ما أزال في هذه الحمى».
وعن المسافة بين السياسة والشعر لدى الشاعر، ذكر يوسف سعدي أن «السياسة هي نشاط بشري مستقل بذاته، والشعر نشاط بشري آخر مستقل بذاته أيضا. هذه مسألة أولية. الأدوات مختلفة والنظرة إلى العالم مختلفة. النظرة إلى العالم مختلفة بمعنى أن الفن أكثر استراتيجية».
وعن الثقل الشيوعي في قصائده ذكر سعدي «أنا أعتقد أنني استلهم الماركسية كثيرا في شعري، وفي ما يخص هذه النقطة بالذات، مسألة معالجة الحدث السياسي بطريقة فنية، فإني استفيد من الماركسية ومن اجتهاداتها في علم الجمال. ولكني استخدم كأداة المتناقض الماركسي في اللغة، ويتمثل في هذه اللغة التي تسمى اللغة المادية، تلك هي أداتي. ولو أردت أن أوضح الأمر قليلا حسب المصطلح العربي، فإني أقول اني استخدم الاسم الجامد أكثر من المشتق. لا استخدم المصدر إطلاقا... لأن المصدر مجرد من الزمان والمكان، فهو تجريد. في الفن عموما نستخدم الملموس للوصول إلى مجرد ما، ولكن عندما تصبح الأداة هي المجرد تكون العملية الإبداعية خاطئة. عملية الكتابة ستكون خاطئة لأن الشاعر مثل النحات. النحات في حاجة إلى مادة خام، الشاعر أيضا أداته هي المادة الخام، والمادة الخام هي الاسم الجامد، وهي الفعل. المادية متحركة والاسم الجامد تسمية للمادة الخام. وهذا منطلق ماركسي أفادني كثيرا في كوني استطيع أن أكتب عن كل شيء. وجنبني الرتابة وجعل عيني مفتوحتين دائما على كل شيء. كل شيء تستطيع أن تخضعه لعملية علاقات كي تنتج قصيدة».
وعن حضور المكان في قصائده، ذكر الشاعر العراقي «المكان موجود في الشعر العربي. وقد تم الاهتمام به في العصر الجاهلي الذي أعتبره أهم شعر عربي حتى الآن. القصيدة الجاهلية هي أفضل ما كتب العربس من شعر إذا نظرنا إلى الاحتكامات الفنية الأساسية. هي قصيدة وثيقة وموثقة. والمكان فيها واضح بشكل عجيب. ولذلك فإني لم آت بجديد في هذا. لكن ربما في وقتنا لضياع كثير من الأشياء اتخذ المكان شكلا مختلفا، وهذا هو الطريق الصعب، وقد تعلمته من امرئ القيس ولم آت به أنا».
وعن نظرته للشعر المغربي ذكر يوسف سعدي «كل الشعراء المغاربة أصدقائي، ولي معهم علاقة قديمة ومتينة. المشهد الشعري المغربي مطمئن. وحتى في فترات الانحسار ظل الشعر المغربي حيا».
وعن وضعية العراق الراهنة، قال الشاعر يوسف سعدي «عندما تم احتلال العراق كتبت مقالاً تحمل عنوان مئة عام من الاستعمار. هذا ما أتوقعه، قرن من الاستعمار. عندما دخلت بريطانيا العراق إبان الحرب العالمية الأولى، لم تخرج إلا بعد نصف قرن. وما يحدث ويحدث الآن شيء شبيه بذلك. وطيلة نصف قرن على الأقل، سيعاني العراق وطأة الاحتلال والحماية والأشكال المختلفة من الحكومات العميلة. وستبدأ من جديد التظاهرات في الشوارع والمطالبة بإغلاق القواعد الأجنبية»، وقال «عندما تركت العراق تركته احتجاجاً على اضطهاد الناس والحكم الدكتاتوري الذي كان موجوداً الذي اعتبره استعباداً للبشر. ولم اترك هذا لأعود إلى عراق مستعمرا أشد هولا... لن أعود، لن أعود لأنه أولا لم يتبق لي من الإقامة على الأرض إلا الشيء القليل، ولا أريد أن أسيء إلى موقفي والعراق مستعمر»
العدد 1350 - الأربعاء 17 مايو 2006م الموافق 18 ربيع الثاني 1427هـ