العدد 1349 - الثلثاء 16 مايو 2006م الموافق 17 ربيع الثاني 1427هـ

«الباتشة»

سلمان بن صقر آل خليفة comments [at] alwasatnews.com

كل بلد في العالم توجد به أكلات شعبية معروفة... وهذه الأكلات لها أسباب، ولها مسببات... لها بدايات، ولكن ليست لها نهايات بسبب أن هذه الأكلات تتطور مع تطور الزمن، ومن ثم تصبح من ضمن التراث الشعبي... وعندما تترسخ هذه الأكلات في تاريخ الشعوب فإنها تصبح نوعاً لا يمكن الاستغناء عنه في الولائم التي تقام لكبار ضيوف البلاد القادمين في زيارات رسمية لرؤية المسئولين والتباحث معهم.

عندما كانت هناك دولة الأندلس الإسلامية التي أسس بداياتها طارق ابن زياد بفتحه البلاد إسلامياً، ومن ثم تبعه بعد ذلك عبدالرحمن الداخل الذي أسس الدولة الأموية في الأندلس، كانت لدى الفقراء منهم أكلة تعتبر خليطاً من كل شيء... الفقراء الجوعانون كانوا يمرون على بيوت الأغنياء ليطلبوا الأكل، والأغنياء كانوا يرمون عليهم الفتات مما يتبقى من الأكل الذي كان على موائدهم، كل بيت يعطيهم ما يتبقى لديه.

بيت يعطيهم رز، وبيت يعطيهم لحم، وبيت يعطيهم سمك، وبيت يعطيهم مكرونة، وبيت يعطيهم خبز، وبيت يعطيهم خضار... هذا الفتات المتنوع من «فضلات» الطعام ما كان ليكفي أكلاً جميع أفراد العائلة لو هم وزعوه كل نوع بنوعه... فماذا هم يفعلون؟... هم يجمعون هذه الفضلات والبقايا من الأكل ويخلطونه مع بعض، ومن ثم يتوزعونه فيما بينهم ويأكلونه... وعلى مر الأيام والتاريخ أصبح هذا الخليط المتنوع من الطعام الذي كان أصلاً فضلات مرمية في الزبالة، أصبح هو الأكلة الشعبية الأكثر شهرة لشعوب هذه المناطق... هم يحبونها ويتفاخرون بها ويقدمونها لجميع ضيوف البلاد.

نحن في بلادنا الخليجية على وجه العموم لدينا أيضاً نوع مهم من الأكلات الشعبية... ألا وهي «الباتشة»، التي هي أصلاً تتكون من الفضلات المرمية وغير المأكولة من جسم الذبيحة، وهذه الفضلات المحذوفة من القصور وبيوت الأغنياء، يجمعها الفقراء ويضعونها في قدور كبيرة ويضيفون عليها الماء وقليلاً من البهارات ثم يطبخونها على النار، يأكلونها ويطعمون فيها أبناءهم الجياع ويقولون بعدها: الحمد لله.

الباتشة تتكون من كل القطع التي ترمى في الزبالة من الذبيحة التي يأكلها الأغنياء مثل أطراف الأرجل (الكراعين) وقسم من الرأس (اللسان)... وميزة هذه الأكلة الشعبية عند الفقراء أنها مملوءة بالدسم لذلك تبقى في البطن مدة طويلة، يعني صعبة الهضم، لذلك هي تغنيهم عن إطعام الأفواه الجائعة ثلاث وجبات في اليوم... العمال في الخليج أيضاً عرفوا بأن الباتشة غنية بالدسم وتحتاج إلى وقت طويل لكي يهضمها الجسم وتنزاح من المعدة، لذلك هي أصبحت فطورهم المفضل قبل بدء العمل.

عمال شركات النفط الذين يصحون من نومهم عند صلاة الصبح ثم يتجهزون ويتجمعون في مناطق معينة ومحددة سابقاً من البلاد حتى تمر عليهم السيارات التابعة للشركات التي يعملون بها وتأخذهم إلى مناطق عملهم، هؤلاء العمال هم من الزبائن الدائمين لمطاعم الباتشة المنتشرة بكثرة في الفرجان والأسواق... هم يأكلون الباتشة كفطور في الساعة الرابعة صباحاً حتى تستمر في بطونهم حتى وقت الغداء.

لذلك فإن مطاعم الباتشة تبدأ أعمالها في الطبخ اعتباراً من الساعة الثالثة صباحاً حتى تكون جاهزة في الرابعة أو بعدها بقليل... وبعض هذه المطاعم التي مازالت تعمل إلى وقتنا الحاضر هي دائماً ما تفتح في الساعة الثالثة، ولكن زبائنها تغيروا من عمال يبدأون يومهم الوظيفي إلى «سهارى» ينهون ليلتهم المتعبة بالباتشة.

الباتشة هي أكلتنا الشعبية... ومع مرور الوقت أصبحت هي حياتنا الشعبية التي نعيشها... الباتشة في وقتنا الحاضر هي أكثر من أكلة شعبية فقط لأنها عندنا «وفي جميع دول الخليج تقريباً» أصبح لها الكثير من المعاني والمدلولات والتي من الممكن أن تطبق على جميع الدول العربية... الباتشة تتكون من الفضلات المرمية من بيوت العز الكبيرة، يأخذها الفقراء اضطراراً ليسدوا بها بطونهم الجائعة من ضنك العيش.

في هذه الأيام أصبحت حياتنا باتشة نرضى فيها بما يرمى لنا من أشياء لا يعيشون بها، وأعمالنا باتشة نقبل فيها بما يعرض علينا من أعمال لا تصلح لهم ولا يعملون بها، وأكلنا باتشة لنضع في بطوننا ما تجود به أياديهم ويرمونه إلينا.

باتشة في باتشة وينكم يا الكراعين علشان نطبخكم ونسد جوعنا... باتشة يا حياة الباتشة

إقرأ أيضا لـ "سلمان بن صقر آل خليفة"

العدد 1349 - الثلثاء 16 مايو 2006م الموافق 17 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً