ثمة اعتقاد راسخ في أعماقي، أن هذا السؤال يتردد على كل لسان هذه الأيام، في ظل ارتفاع وتيرة الاحتقان والصدام والعراك السياسي الاجتماعي، الذي يضفي على الساحة مسحة من التوتر الشديد!
ويبدو الأمر، أمر التوتر والاحتقان، كأنه حدث مفاجئ وشيء طارئ، سرعان ما تزول آثاره، لكن الحقيقة أن عوامل التوتر ومحركات الاحتقان والصدام، كثيرة ومركبة، بدت ملامحها منذ فترة طويلة، ثم تراكمت، مع عدم الاهتمام بالحل، وصولاً إلى ما يشبه الانفجار الآن.
وعلى رغم أن أسباب كل ذلك داخلية في الأصل والأساس، مثل الفقر والبطالة والأمية وانفجار الأسعار والسلب والنهب والفساد والاستبداد، فإن التحريض الخارجي وجد في هذ الأرض المتوترة، ساحة نموذجية لممارسة مهمته، ولعلنا نذكر القراء، بأننا مع غيرنا من الكتاب والمحللين، نبهنا وحذرنا قبل سنوات، من نظرية «الفوضى الخلاقة» التي اخترعها عتاة المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، وراحوا يؤصلونها ويروجون لها في العالم.
وخلاصة هذه النظرية المدمرة تقوم على زعزعة الأوضاع في دولة ما، حتى لو كانت حليفة أو صديقة، وتحريض القوى السياسية والاجتماعية في الداخل، لتتحرك رفضاً لنظام الحكم القائم، حتى يجد نفسه أمام أحد احتمالين، إما أن يسقط نهائياً، وإما يخضع للضغوط الأجنبية في الأساس، وينصاع لمطالبها، وفي الحالين يستطيع مهندسو الفوضى الخلاقة إعادة بناء الدولة وتركيب قواها ومؤسساتها وفق مخططهم وأهدافهم... (نماذج أوكرانيا وجورجيا ورومانيا وغيرها).
وها نحن هذه الأيام العصيبة نمرّ ونواجه نوعين من الفوضى الخلاقة الأميركية، نوع حاد خشن هكذا بدأ، وهكذا سينتهي، ونوع أقل حدة وخشونة حتى الآن لكنه يدفع دفعاً نحو الصدام الأكثر حدة.
النوع الأول نجد مثاله النموذجي في العراق، إذ بادر جيش الاحتلال الأميركي إلى هدم كل شيء منذ بداية الغزو العام 2003، وإلى إطلاق كل قوى الفوضى والسرقة والنهب والقتل والثأر والتصفية العرقية والطائفية، بينما هو يتفرج في انتظار انتهاء حال الفوضى، إلى حال جديدة «خلاقة» يبنيها على عينه!
غير أن الأمر كما ترون لم يتحقق وفق الوهم الأميركي، وها هي أكثر من ثلاث سنوات على الاحتلال قد انقضت، بينما الفوضى الخلاقة انقلبت على أصحابها، لتغرقهم في مقتلة دموية لن يخرجوا منها بسهولة، وإن أصابت الفوضى شعب العراق في مقتل لا براء منه في القريب لأن الأساس قد تهدم!
وقد ينطبق الوضع ذاته على فلسطين وعلى السودان وعلى الصومال، إذ انطلقت القوى والتيارات المتصارعة والمتنافسة، فيما يشبه الحروب الأهلية، يلعب فيها الاحتلال الصهيوني والحليف الأميركي الدور الأعظم، تحطيماً لكل ما هو قائم، على أمل بناء جديد فوق أنقاضه، يتناسب مع المشروع الصهيوني الأميركي.
أما النوع الثاني من الفوضى الخلاقة الأميركية، التي تبدو أقل دموية من المشهد العراقي أو الفلسطيني أو الصومالي، فهو يتمثل حالياً في ثلاث ساحات رئيسية، تمثل كل منها قوة رئيسية فاعلة في المنطقة العربية والإسلامية، ونعني إيران التي دخلت مع أميركا والغرب لعبة الشد والجذب بشأن برنامجها النووي، في ظل استقواء داخلي وإرادة ذاتية حديد، بينما مازالت أميركا وحلفاؤها مترددين في الانقضاض العسكري الساحق على إيران، لأنهم يعلمون أن رد الفعل الإيراني سيكون مدمراً للمنطقة، وخصوصاً في الخليج والعراق... ولذلك فإن اختيارات الفوضى الخلاقة مازالت تحت الاختبار حتى اللحظة على الأقل.
وعلى الجانب الآخر مارست قوى المحافظين الجدد الأميركيين، شكلاً من أشكال هذه الفوضى الخلاقة، في المملكة العربية السعودية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، مارسته بالضغط الناعم ولكن الحاسم، واستغلت بالضرورة اندلاع الهجمات الإرهابية الكثيرة، التي عانت منها السعودية، سلاحاً إضافياً لتوسيع دوائر الفوضى الخلاقة الضاغطة على نظام الحكم من ناحية، ولممارسة سياسات ابتزازية ضد السعودية لإجراء إصلاحات داخلية، من ناحية أخرى، وهي تعلم أنها تتعامل هنا مع أكبر مصدر للنفط وأهم شريك للغرب عموماً.
ولا أتردد كثيراً في الربط بين العمليات الإرهابية، والابتزاز الخارجي الحاد، وبين نظرية الفوضى الخلاقة الأميركية هذه!
أما الجانب «الأعوص» والمشكلة الأكثر تعقيداً، في إطار نظرية الفوضى الخلاقة هذه، فهي ما يجري في مصر المحروسة، وهو أمر لا يمكن التهوين من خطورته ولا مجال للادعاء بأنها مجرد مظاهرات احتجاجية محدودة العدد محدودة الأثر، يجيد الأمن التعامل معها بالشدة اللازمة.
للأسف، ظل بعض السياسيين والمحللين، الذين غالباً لا يقرأون السياسة الأميركية جيداً، يرددون أن مصر الحليف الأهم لأميركا الذي لا يمكنها الاستغناء عنه، وبالتالي فإن أميركا لا يمكن أن تخاطر بممارسة لعبة الفوضى الخلاقة في الحال المصرية، حفاظاً على نظام حكمها الحليف قوياً متماسكاً.
لكن الحقيقة أنه جدت في الأمور أمور، وما كان بالأمس مسلّماً به، لم يعد كذلك، ومن راهن على الصداقة الأميركية الدائمة، خانته الصداقة غير الدائمة، لأن المصالح هي الأهم، باختصار من تغطى بأميركا فهو عريان كما ولدته أمه... تماماً كما أن من كان يتصور أن مصر بلد مسالم وشعبها هادئ صبور «وربما خنوع!» قليلاً ما يثور وينفجر في وجه غاصبي حقه، جاء رهانهم خائباً بالدرجة نفسها.
أتذكر أنني قرأت مقالاً مهماً للدبلوماسي الأميركي المحنك وخبير الشرق الأوسط وليم كوانت في مطلع يناير/ كانون الثاني من العام 2006، قال فيه جملة بليغة، هي: «إن الرئيس الأميركي بوش لم تكن لديه فكرة عما يجري في المنطقة العربية خلال العام 2005، وإنه ليست لديه أية فكرة أيضاً عما يمكن أن يحدث في العام الجاري (2006)»... باختصار وصفه بالجهل بحقائق ما يجري هنا.
وحقائق ما جرى هنا في مصر تحديداً العام 2005، امتداداً للعالم الجاري، هو تغير حقيقي وعميق في التفكير والمزاج والسلوك المصري، وصل إلى حدود الاشتباك الحاد وربما الصدام العنيف، بين قوى سياسية اجتماعية محتجة متمردة، ترفض الأوضاع الراهنة المتجمدة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتريد تغييرها سلمياً بإصلاح ديمقراطي وطني حقيقي، وبين قوى بيروقراطية مازالت متحكمة في الحكومة والحزب الوطني الحاكم، ترى في القوى المحتجة مجرد «بلطجية وراغبي سلطة لا يزيدون على بضع مئات» يستغلون وسائل الإعلام والفضائيات، لإظهار مصر كأنها في فوضى شاملة أو صدام دموي، أو ثورة شعبية، تحركها قوى التدخل الأميركي باسم الفوضى الخلاقة... ثم يصل التطرف إلى وصف هؤلاء بالخيانة والتبعية إلى أميركا!
وفي اعتقادي أن أميركا ونظريتها في الفوضى الخلاقة، لابد ستستفيد من هذا الحراك السياسي والاحتقان الاجتماعي الجاري في مصر، لكن المحرك الأصلي لما يجري في مصر هو محرك مصري وطني صميم، وجد في التغيرات السياسية التي حدثت على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، دافعاً للمطالبة بإصلاح ديمقراطي وبإطلاق الحريات وصيانة حقوق الإنسان، وحماية حرية الصحافة والرأي والتعبير واستقلال القضاء والجامعات، وضمان حقوق المواطنة ومحاربة التطرف والفتنة الطائفية، وكلها أمور باتت تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي ولاستقرار مصر ووحدتها التاريخية. وبدلاً من الاحتكام إلى الحوار العقلاني الديمقراطي، والعودة إلى الوسطية المصرية الشهيرة، وأعمال الاجتهاد متعدد المنابع لإعادة اللحمة السميكة إلى السبيكة المصرية، اندفع تيار التسلط والعنف داخل البيروقراطية المصرية، إلى المواجهة بالقوة الأمنية الباطشة، قبضاً واعتقالاً وضرباً وسحلاً واعتداءً شرساً، لا يفرق بين عابر للشارع وبين متظاهر، وبين صحافي يؤدي عمله أو قاضٍ يمضي نحو منصته.
وللأسف الشديد، فقد كانت الصور الحية التي نقلتها بعض الصحف والفضائيات العربية والأجنبية، عن معارك الشوارع بين قوات الأمن المدججة بالسلاح، وبين المتظاهرين، أمراً مهينا لكل مصري.
بقي أن أقول إننا نخوض معركة بالغة الشراسة مع منظمات وقوى الإرهاب المسلح، الذي أطل علينا من جديد، وخصوصاً عبر سيناء الحبيبة، وربما ستكون مواجهته أشد عنفاً وشراسة مما جرى في الصعيد، خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، لاختلاف الظروف والدوافع والجغرافيا السيناوية الملاصقة لـ «إسرائيل» والمفتوحة على الخلجان والبحار.
لذلك أسأل حقاً: كيف يمكن لنا أن نتكاتف لنحارب هذا العدو الأشرس، ونحن متخاصمون مختلفون.
إن الأمر أخطر من تلك التقارير المزيفة، التي تدعي أن المظاهرات «شوية عيال» وأن القضاة والصحافيين يبحثون عن دور سياسي، وأن المثقفين محترفو كلام، وأن العمال تحت السيطرة، وأن الأمن فوق الجميع!
وختاماً... إن كان البعض قد نسي، فلن ننسى أنه لولا دور قوى المجتمع هذه، وخصوصاً من المثقفين والدعاة المستنيرين، لما تمكنت عصا الأمن وحدها من القضاء على عصابات الإرهاب في الصعيد، لأن محاربة الإرهاب عمل مجتمعي.
ونحن اليوم إذاً في حاجة إلى مصالحة حقيقية، تفض هذه المخاصمات والصدامات والاستقواء، لكي نتفرغ حقاً لمحاربة العدو الإرهابي الشرس، وظهيره من قوى الفوضى الخلاقة!
خير الكلام
قال نزار قباني:
وكيف نكتبُ والأقفالُ في فمنا
وكـل ثانيــة يأتيـــك ســـفاحُ
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1349 - الثلثاء 16 مايو 2006م الموافق 17 ربيع الثاني 1427هـ
جيلالي
ممكن ونحن ةعلى ثقة وبدون غرور ' ان الخريطة العربية ممكن ان تنجو من كل المؤامرة والاحتلال والتهديد ( ادا كان التنسيق والتشاور والتفاهم وتحت شعار -السياسة العربية هي الاستراتجسىة هي الاسلحة النووية للدفاع للدفاع وتدمير المؤامرة _________