القول إن فيلم «صمت الحملان» لـ انطوني هوبكنز، وجودي فوستر، لن يتكرر إلا ربما بعد مرور 100 عام من تاريخ إنتاجه وعرضه، لا يتجاوز الحقيقة، بما توافر للمثلين هوبكنز وفوستر من منهجية في الأداء قلّ نظيرها في التاريخ السينمائي العالمي.
كل كتابة عن «صمت الحملان»، هي بمثابة اكتشاف لجدلية الاستقرار والقلق، الرعب، والاطمئنان، المجتمعات الممتدة في رفاهيتها، والغافلة في الوقت نفسه عن مردودات وإنتاجات تلك الرفاهية. يحيلك الفيلم إلى أكثر من مفهوم متعلق بالرعب والخوف في درجاتهما القصوى، وهما ليسا نتاج حال خاصة يجسدها «هانيبال»، بل هي نتاج حالات جمعية لها مسبباتها وعلاقاتها وتراكماتها.
الدرجة العنيفة، والصور الممعنة في وحشيتها تلك التي يطلع بها هانيبال - هوبكنز - على المشاهدين، تشير إلى الدرجات الحرجة والخطرة التي يصل إليها رد فعل (الانتقام) ليس من أطراف بعينهم، يمكن تحديدهم مسبقاً، إذ يتمكن المشاهد من خلق تفسير وتتابع منطقي لصور وردود الفعل تلك، بقدر ما أن حوادث الفيلم وتداعياته تقود إلى ما يشبه ردود فعل مسبقة تعمل عملها في استدراج المجتمع وخصوصاً، نخبه، نخبه الممسكة بالمنظومة القانونية المسيرة لمفاعيل الحياة في أي مجتمع من المجتمعات، إلى ذلك الدرك من العنف.
لا تخلو لغة الحوار في الفيلم من مساحات شعرية في عدد من مشاهده ومفاصله، لغة انحازت إلى الكثير من الشعرية، وإن بدت في بعض مقاطعها (جافة وتقريرية وجامدة)، بمعنى تعاطي لغة الحوار مع تفاصيل الحدث والمشهد من دون أية لمسة تخرجه عن هدفه والانعطاف به نحو تجاوز المباشرة.
في الزيارة التي تقوم بها (كلاريس - فوستر)، لهانيبال في السجن ذي الاجراءات المشددة، يبدأ الحوار بـ:
هانيبال: أنت لست عميلة حقيقية؟
كلاريس: مازلت أتدرب في الأكاديمية
هانيبال: جاك كروفورد بعث لي متدربة!
فيما يشبه الامتعاض من تعاطي النخبة الموكل اليها الإمساك بالمنظومة القانونية، والحيلولة دون تعرض الوسط الذي تتحرك فيه إلى ما يشبه الاختراق أو التطاول عليه، وكأنه يحيل امتعاضه ذاك بتهكم يبدو مبطناً، تظل كلاريس معنية به، فيما هو يسعى إلى إيصال فكرة أن حجم الرعب والخوف الذي يكاد يكون فائضاً في المجتمع والوسط الذي تدور فيه حوادث القتل تلك، لن تكون قادرة على وضع حد له، عدا عن تكليف متدربة في الأكاديمية للتصدي إلى جانب منه ولو في صورة استقصاء وبحث تعمل عليه كلاريس.
«صمت الحملان» يمنهج حالات الخوف والرعب والتجاوزات، وحتى عجز المنظومة القانونية والأمنية عن مجاراة أساليبه وتقنياته وحيله. هو يقول حالات لا تقتصر على مجتمع أو وسط مديني بعينه، بقدر ما يقول حالات معنياً بها المجتمع الإنساني برمته في ترميزات بالجملة، وترك المعالجات معلقة في الهواء من دون أن يطولها أحد. إذ لا يقدم تصوراً حتى على مستوى تحييد ذلك العنف أو حشره في زاوية من زوايا المنظومة الأمنية
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1349 - الثلثاء 16 مايو 2006م الموافق 17 ربيع الثاني 1427هـ