العدد 1348 - الإثنين 15 مايو 2006م الموافق 16 ربيع الثاني 1427هـ

العرب يقرأون علامات الأزمنة بعين واحدة

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

خلق الله للإنسان فما واحداً وأنفا واحداً، وخلق له عينين وأذنين، ربما ليضاعف البصر والسمع، والإنسان العربي خلق له مثل ما خلق للآخرين، إنما زاد على ذلك بان حظاه بمعلقين وكتاب في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، أكثرهم يصر كل يوم على إرغامه بان يسمع بأذن واحدة، ويرى بعين واحدة الحوادث الساخنة المحيطة به.

ولضرب المثل فان هناك قضيتين تداولتا في الأسابيع الأخيرة في وسائل إعلامنا، وكان لمعظم من كتب أو تحدث فيهما رؤية أراد لنا من خلالها أن نرى جميعا بعين واحدة، اما تجاهلا أو جهلا.

القضية الأولى مقارنة الانتخابات الفلسطينية بالانتخابات العراقية، والثانية ما يحدث من أزمات في الحلبة السياسية الغربية (أوروبا)، وخصوصاً أزمة الحكم في بريطانيا والتغيير الذي تم في ايطاليا، ويربطه بحوادث عربية، فيقرر بقطعية يحسد عليها أن تلك الحوادث السياسية على الجانب الغربي، هي عقوبات لا غير على ما يرتكبونه من سياسات خاطئة تجاهنا!

في المقارنة بين الانتخابات الفلسطينية والانتخابات العراقية، نجد أن معظم ما نقرأ لا يخرج عن القول إن الانتخابات الفلسطينية كانت انتخابات حرة ونزيهة، ونتج عنها وصول قوى سياسية هي «حماس» التي يفضلها الشارع الفلسطيني لتقوده في هذه المرحلة من مراحل نضاله المشروع، وكل ذلك حق، لكن التحليل ذاك يضيف، أن هناك عقبات تقف أمام هذه القيادة السياسية الجديدة، وهي عقبات تعبر عن «صلف» الغرب بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، ذلك الموقف يحول دون أن تقوم الحكومة الحماسية بدورها المرتقب والمرجو. لذلك يضيف التحليل، أن هذا الغرب يسقط في اختبار أخلاقي ذريع، فمن جهة يطالب بديمقراطية وصناديق انتخاب، ومن جهة يحجر على من انتخبهم الشارع الفلسطيني أن يقوموا بدورهم.

ومن جهة أخرى، ينتقد الأشخاص نفسهم تقريباً بمرارة الانتخابات التي تمت أخيراً في العراق، ويصفون تلك الانتخابات، التي سعى إليها نحو 8 ملايين عراقي، أنها تمت تحت نير الاحتلال، فهي من وجهة نظر ذلك التحليل، لا تساوي ثمن الورق الذي صوت به الناخبون العراقيون!

في هذا المنظور التحليلي غير المتوازن، يرى ذلك البعض بعين واحدة فقط، فهم لا ينتبهون، أو لا يريدون أن ينتبهوا، أن المقارنة لا تتفق مع العقل، فإن كانت مثالب التصويت العراقي في الانتخابات الأخيرة أنها تمت تحت «نير الاحتلال الأميركي» فإن الانتخابات الفلسطينية تمت تحت «نير الاحتلال الإسرائيلي»، الذي ربما يكون أكثر صلافة وقسوة، إذ منع بعض الفلسطينيين في أماكن كثيرة حتى من الاقتراب إلى صناديق الانتخاب من أجل التصويت لمرشحيهم؟ فكيف يتسنى لنا القول إن هنا انتخابات «حرة ونزيهة» وهناك غير ذلك!

لا يعني هذا القول إن الموقف الغربي من نتائج الانتخابات الفلسطينية هو موقف مقبول، لكن يعني أن المقارنة هي التي تقع تحت طائلة اللاعقلانية. الموقف الغربي المعلن من نتائج الانتخابات الفلسطينية له دوافع أخرى (غير عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات) بل له علاقة بشروط الحكم العقلاني، فأية حركة سياسية لا تستطيع أن تشكل «المعارضة والحكومة» في الوقت نفسه. ولعل ما كثر الحديث عنه في الأسبوع الماضي والخاص باكتشاف أسلحة مهربة للأردن، قامت بها بعض «فصائل حماس» يكشف عن بعض ذلك التناقض، ويشكل المعضلة التي ستبقى معنا لفترة وتتجلى في أشكال كثيرة، حتى يبدأ العقلاء بمناقشة المعضلة على رؤوس الأشهاد.

وحتى لا تسقط حماس في بعثرة المجهود الفلسطيني بين داخل وخارج، وبين غرف مغلقة وميكرفونات مفتوحة، وبين اشتباك وهدنة بين الفصائل المختلفة، وهناك خيارات سياسية متاحة لحكومة حماس يبدو أنها تفرط بها، أقلها التمسك العلني بالمبادرة العربية، من بين خيارات أخرى.

ليس في الأمر خيار لتوصيف الواقع، فهناك احتلال إسرائيلي صلف وقامع للفلسطينيين، هذا أمر واقع ويومي، إلا أن الخيار السياسي هو إما السعي مع المجتمع الدولي، لدحر هذا الأمر أو التخفيف منه، وإما خلق الظروف الموضوعية لزيادته صلفه وتبريره أمام العالم، في عصر يعرف الجميع أنه عصر يحتاج إلى قوى العقل والمنطق والحشد، كما يحتاج إلى قوة المقاومة، التي تأخذ أشكالاً مختلفة بحسب الظروف المتغيرة.

على المقلب الآخر يريد بعض المحللين أن يفهمونا أن ما حدث من نتائج انتخابية في ايطاليا بخسارة بيرلسكوني ونجاح غريمه السياسي، أو الصعوبات التي تواجه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، هي نتاج موقف واحد وحيد هو «موقف حكومتيهما» من احتلال العراق! وهو أمر عندما يقرأه المواطن العربي الفطن يشعر أن هناك توجها مسبقاً للتسطيح والتضليل. حتى لو افترضنا أن عامل «الحرب على العراق» له بعض التأثير في ما حدث في ايطاليا وما يحدث في بريطانيا، إلا أن بعض التأثير هذا لا يتجاوز نسبة ضئيلة من أسباب الحوادث التي خسرت بيرلسكوني الانتخابات، أو التي تواجه بلير. وهناك أزمات مشابهة تواجه كلا من جاك شيراك في آخر سنوات حكمه، كما واجهت السلطة الألمانية السابقة، وهما -أي ألمانيا وفرنسا - لم تشاركا في حرب العراق!

هناك ديمقراطية غربية تعمل بالآليات الساعية للتغيير والتجديد، وهناك عناصر داخلية في تلك المجتمعات تتصادم وتختلف، أساسها اقتصادي ينتج عنها التغيير المطلوب سياسياً.

في الحال البريطانية وضوح أكثر يقنع العاقل بعدم تلازم ما يحدث بالحرب على العراق، فقد خاض حزب العمال بزعامة طوني بلير انتخابات عامة منذ أكثر من عام فقط، وحصل على غالبية مريحة في البرلمان الحالي، ولو كان الناخب البريطاني يريد أن يعاقب حزب العمال وبلير على ما قام به في العراق، لكانت نتائج الانتخابات تلك أظهرت ذلك الغضب، فقد خيضت بعد الحرب بما يقارب العام، وكانت أخبار الحرب ساخنة ومقصدها ضبابياً أكثر منه الآن. ينسى بعض المحللين أو يتناسون أن المجتمعات الغربية تمر بمرحلة «فوق ديمقراطية» إن صح التعبير، وهي التي تعني انه حتى لو تسنى لزعيم خوض انتخابات ناجحة أو حتى تحقيق نصر مؤزر في حرب (كما حدث لونستون تشرشل بعيد الحرب الثانية أو للسيدة مارغريت ثاتشر بعيد حرب الفوكلند)، فإن الشعب يضيق بالزعامات الدائمة. لهذا السبب النفسي ربما قرر رجال التأسيس الأميركي، بعد فترة قصيرة من تجربة الرئاسات التي ليس لها سقف زمني، أن يحددوا السقف الزمني للرئيس الأميركي بـ 8 سنوات متعاقبة لا غير! مثل تلك التحليلات التي يقرؤها البعض على أنها حقيقة كاملة ونهائية، تغري المتلقي العربي بأن ينظر بعين واحدة، وتوظف على غير ما هو حقيقي وواقعي. والانكأ من كل ذلك أن يصدق بها المسئول العربي ويرتاح إليها وهي مبنية على وقائع متخيلة وتكيف مصلحي، وسوء قراءة في علامات الأزمنة، فيتكئ عليها في اتخاذ قراراته، كونها حقائق غير قابلة للجدل

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1348 - الإثنين 15 مايو 2006م الموافق 16 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً