في كل مجتمع، بل في كل الكون، هناك طاقات وامكانات غير مستفادة، والتنمية الإنسانية تتمحور حول «تمكين» الطاقات غير المستفاد منها بهدف الصعود بمستوى المعيشة وبمستوى الذوق الحضاري وبمستوى معنوي مرتفع وخلاق. وعليه، فإن مختلف النظم المتطورة تسعى إلى تنمية الامكانات وتطوير الطاقات والموارد (الطبيعية والبشرية) بهدف إعمار الأرض وإسعاد النفس الإنسانية من خلال الانجاز والإبداع في اتجاه ذي محتوى أخلاقي وتمدني.
على العكس من كل ذلك، فإن المجتمعات المتخلفة أو التي تعيش تحت الدكتاتورية الخانقة، فإنها تسير عكس مسار التنمية... فهي ضد التنمية الاقتصادية إذا تعارضت مع مصالح الفئة المتسلطة والانانية، وهي ضد التنمية السياسية إذا كانت هذه التنمية ستزاحم محتكري الحياة العامة، وهي ضد التنمية الثقافية إذا كانت تلك الثقافة ستؤدي إلى انعتاق وتحرر من المتطفلين على حياة الناس، وهي ضد التنمية الاجتماعية إذا كان ذلك سيؤدي إلى تقوية الإرادة المجتمعية التي قد تقف ضد استبداد الدولة، وهي ضد التنمية المدنية إذا كانت هذه التنمية ستؤدي إلى المساواة بين كل الناس من خلال اعتماد معايير الكفاءة والعطاء بدلاً من المحسوبية والمنسوبية والتمييز العنصري والطائفي، وهي ضد تنمية البيئة الطبيعية إذا كان ذلك يعني خسارة الأرباح الأنانية أو خسارة الاستحواذ على الاراضي والسواحل وكل ما منحه الله للناس كافة من جمال للطبيعة.
وفي عصرنا الحالي أصبح من الصعب على أية مجموعة تحكم فئة من الناس أن تدعي بأنها ضد التنمية بمختلف فروعها - الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية أو المدنية أو البيئية - وخصوصاً مع تطور منظومات دولية تسعى إلى الارتقاء بالمجتمع الإنساني من خلال الدفع باتجاه الالتزام بالحد الأدنى من متطلبات التنمية الإنسانية (بفروعها المختلفة المذكورة أعلاه). وحتى القوى التي تسعى إلى الهيمنة على مصير العالم، فإنها لا تقول: إنها تود الهيمنة، وإنما تدعي أنها تسعى لتحقيق التنمية بأبعادها المختلفة. والولايات المتحدة طرحت بعد العام 2001 أن مصالحها بدأت تتهدد، لأنها أهملت التنمية السياسية (نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان)، وركزت على دعم حلفائها الدكتاتوريين الذين أنتجوا الارهاب والتطرف بسبب سياساتهم الخاطئة. وسواء صدقنا أو شككنا في نوايا أميركا أو أية جهة أخرى، فإن ما يهمنا هو أن كل الأجناس البشرية توصلت إلى نتيجة مفادها أن الدمار والخراب (مقومات مجتمع الغاب) هو ما ينتظر البلدان التي تهمل برامج التنمية الإنسانية بأبعادها المختلفة. وضمير المجتمع الانساني ليس في قبضة أميركا أو أية قوة عاتية أخرى، وإنما هو ضمير وهبه الله للإنسان وكرمه على غيره من المخلوقات الأخرى التي لا تعي الفرق بين الخير والشر.
وفي ظل التضاربات والتلاطمات السياسية التي يمر بها العالم، فقد لجأ البعض إلى «تلفيق» الأوضاع الدكتاتورية من خلال تلبيسها بشعارات زائفة وتأسيس معاهد ومؤسسات تتحدث عن التنميات السياسية والاقتصادية وغيرها، لكن في الواقع انما هي لشراء الوقت وتمطيط الاجندة المطروحة عالميا من خلال زرع الإحباط في نفوس الناس. وأملنا الوحيد هو أن ما يجري في البحرين بقيادة بعض الجهات والأشخاص ليس من هذا الصنف التعيس، وليس لنا وسيلة للتأكد حالياً إلا من خلال تمكين طاقاتنا بأنفسنا من دون الحاجة إلى معاهد مستوردة أو أخرى مدجنة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1348 - الإثنين 15 مايو 2006م الموافق 16 ربيع الثاني 1427هـ