الإحباط أشد حالات الضعف والوهن، وأعظمها قعودا بالفرد والمجتمع، والمحبط هو من تضخمت عنده السلبيات فاستعمرت عقله وهيمنت على قلبه، وراحت ترسل جنودها حراسا على منافذ نفسه لينكلوا بكل ايجابية حاولت التفلت والتسلل إلى أعماقه أو الاستقرار والاستيطان في ذاكرته.
ولأن نفس الإنسان مجبولة على التفاعل مع الخارج، ولا تتمكن من الحياة بعيدة عن همومه وحراكه غالبا، فإن حال الإحباط تعمل جادة سعيا وراء السيطرة والهيمنة ومن ثم توجيه التفاعل الإنساني مع الخارج، ولكي تسيطر حال الإحباط وتحيط بالإنسان تماما، فإنها تحاول باستماتة منقطعة النظير أن تقدم للعقل أخبارا منتقاة ومغربلة بعناية بالغة، ليست منزوعة الدسم، وانما خالية تماماً من رائحة الأمل والتفاؤل، ومنسجمة مع مزاج ذي نمط خاص.
تلتفت النفس يميناً ويساراً فلا ترى خيراً من المزايدين الذين يتوافقون مع مزاج الإحباط ويتعاونون معه كعملاء من الدرجة الأولى، يراقبون الحوادث ويفصلون الأخبار بما يتلاءم والذات المحبطة، فيقدمون لها كل ما تستسيغه وتقبله وتتفاعل معه، وهكذا يحصلون على بيئة منا سبة تحتضنهم، ويحصل المحبطون على جيش جرار من المزايدين، فتتوطد العلاقة ويبدأ العمل المشترك بين المزايدين والنفسيات المحبطة.
لكن ما هي آلية العمل؟ كيف يتعاملون مع الأخبار الإيجابية؟ كيف يفسرون بعض الاختناقات التي تنفس بين الحين والآخر؟ وبماذا يتحدثون عن بعض العقد التي تحل؟ وبعض الضغوط التي ترفع؟ والكثير من التغيرات التي شهدها ويشهدها المجتمع، والتي أراحته كثيرا وفرجت قدراً كبيرًا من همومه؟ وبأي كيف يقرأون هذه التغيرات البيانة؟
1 - يعمد أولئك المحبطون إلى إنكار كل تغيير حاصل، ويغمضون أعينهم بإصرار وتعمد عن رؤية الأشياء بحقيقتها ومن ثم لا ينصفون في الحديث عنها أمام الملأ، بل يلقون سؤالهم الدائم والعام أمام المجتمع ورأيه العام، ما الذي تغير؟ وما الذي تبدل؟ وما الذي أنجز؟
مهما كانت أمثلتك المتناثرة ومهما كانت الحقائق الخارجية تدعم ما أنت بصدد بيانه، فإنهم يقزمون كل خبر ويحجمون كل ايجابية، ويختزلونها بكلمات أبعد ما تكون عن الإنصاف والعدل والواقع.
2 - إذا أبت تلك الجزئية الإيجابية أن تستجيب لتنكيل المحبطين وبخترة المزايدين بغية التنكر لها، عمدوا إلى المقارنة بينها وبين بعض المتعثرات من الأمور والقضايا، وأمطروك بسيل من القصص المعاكسة، وكأن لسان الحال يقول: «أما أن يصلح كل شيء أو لا شيء قد صلح». تعمل ذهنية هؤلاء بسرعة البرق على استحضار حادث مأسوي من هنا، وتصرف مزر هناك، وخبر مزعج في مكان ثالث وهكذا يطمسون كل شيء يمت للإيجاب بصلة، ليثبتوا أن الأوضاع تتحرك من السيئ إلى الأسوأ.
3 - مقارنة المنجز بالهدف: كل خطوة مهما قصرت، وكل انفراج مهما تضاءل يرى العقل والمنطق أنها بداية الاقتراب نحو النهاية، ويريان كذلك أنهما سيسرعان ببقية الخطى نحو المبتغى العظيم والهدف الكبير، هذه هي سنة الحياة وبهذه النظرة يبصر منطق العقل مختلف التغيرات، ويتابعها باهتمام وعناية بالغين.
مع منطق العقل هذا ينظر المنصفون الى الخطوات الصغيرة، والانفراجات المتناثرة باعتبارهما الحركة الدائمة والضرورية والتراكمية التي توصل من النقطة الحالية (أ) الى الهدف المنشود (نقطة ب).
على العكس من ذلك تماما تكون وجهة النظر الأخرى، إذ ينظر المحبطون والمزايدون الى تلك الخطوات بعين السخط ويصنعون مقارنة فوضوية بينها وبين الهدف الكبير، لتبدو تلك الخطوات الصغيرة وكأنها عدم محض، وتبرز الانفراجات الجزئية من هنا وهناك وكأنها تفاهات لا تستحق سوى السخرية والتهكم.
4 - محاولة التفكيك بين أية خطوة ايجابية وبين الجهود البشرية التي بذلت في سبيلها، سواء من قبل أناس معينين ومعنيين، أو من قبل جهة شاخصة بذاتها ونسبة ذلك التغيير للظروف والمتغيرات الخارجية والدولية. بهذه البساطة يحاول المحبطون ومن خلفهم كل المزايدين تفكيك كل علقة وصلة بين ما هو حاصل وبين الجهود التي سبقت كينونته ومثوله، تبريرا لتقاعسهم وانكسار عزائمهم وضعف هممهم، وأخيرا حتى لا يرون أنفسهم أمام الأسئلة المباشرة من المجتمع عن دورهم وعملهم في هذا المنجز أو ذاك.
5 - إثارة الشكوك، باعتبار أن هذا ليس منجزا بل هو مؤامرة وخديعة وذر للرماد في العيون، واستغفال للمجتمع، وتضييع لجهوده، وتحريف لجوهر القضايا وتمييع للأهداف الكبرى، وهكذا معزوفة موسيقية طويلة من الشكوك التي لا خلاص لها ولا نفاذ.
أنتهي هنا إلى أمر مهم وهو أن الإحباط وساعده الأيمن(المزايدة) لا يمكن أن يفقدا ما يؤولان به الحوادث وإن تراءت واضحة وبينة تستعصي على المزايدة والمبالغة، ولتقريب المعنى مع الفارق الكبير، يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه «ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين» (الانعام: 7).
فحري بالمجتمعات المتأملة للخير أن تعود نفسها إتقان لغة الشكر والعرفان والتقدير لكل من قدم لها عملا، أو بذل لها جهدا، أو أعطى لقضاياها وقتا، سواء تمكن من تحقيق شيء، أم منعه مانع، أيا كان ذلك المانع، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وحري بها الإنصاف في تصوراتها للأشياء حتى تكون أقدر على الاستفادة من التطورات والإسراع بها نحو أهدافها المرجوة، ذلك أننا إذا تنكرنا لأي مستجد إيجابي فسنعيش بعيدا عن إمكان استثماره وتطويعه لما ينفعنا، وحينها سنخسر ولن ينفعنا المزايدون ولا المحبطون.
كاتب وعالم دين من السعودية
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1347 - الأحد 14 مايو 2006م الموافق 15 ربيع الثاني 1427هـ