العدد 1346 - السبت 13 مايو 2006م الموافق 14 ربيع الثاني 1427هـ

السيناريوهات المستقبلية للمياه والبيئة في الخليج... السياسات أولاً

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

في المقال السابق تم استعراض السيناريو الأول «السوق أولاً» من 4 سيناريوهات بيئية يمكن أن تمر بها المنطقة، ويتصور عالماً تكون فيه التنمية خاضعة لقوى وآليات السوق والتركيز على النمو الاقتصادي وتشجيع الاستثمارات، وتخفيف القيود البيئية لجلب الاستثمارات وجذب القطاع الخاص للمساهمة في رفع الأعباء المالية عن كاهل الحكومة واسترجاع تكاليف الخدمات، وينتج عنه ارتفاع في حمولات التلوث على البيئة في المنطقة وستكون لذلك تأثيرات سلبية كثيرة على الإنسان والبيئة.

ويستعرض هذا المقال السيناريو الثاني: سيناريو «السياسات أولاً»، ويفترض تدخل الحكومات بشكل قوي وفعال وبتنسيق عال لتحقيق قدر أعلى من العدالة الاجتماعية وحماية أكبر للبيئة. ويشترك هذا السيناريو مع سيناريو «السوق أولاً» في استمرارية المؤسسات وسرعة نمو الاقتصاد العالمي وانتشار العولمة وتحول مجتمعات المنطقة إلى مجتمعات صناعية، ولكن يتم في هذا السيناريو تخفيف الآثار الاجتماعية والصحية والبيئية السلبية للنمو الاقتصادي، إذ تقرر دول المنطقة إدماج القضايا الاجتماعية والبيئية في السياسات الاقتصادية والمالية لتخفيف ارتفاع الأسعار في التنمية الاقتصادية الحرة ولتقديم خدمات أفضل للمواطنين، ويتم سن وتطبيق القوانين والتشريعات البيئية المطلوبة للحفاظ على البيئة واستدامة الموارد الطبيعية. ويتم تشجيع القطاع الخاص للمساهمة في الاستثمار والتنمية الاقتصادية ولكن تتم الخصخصة ضمن شركات مساهمة يمتلكها المواطنون كلية أو مشاركة مع شركات أجنبية لضمان الحصول على التقنيات الحديثة في الإنتاج.

ويتخيل هذا السيناريو رسوخا للديمقراطية الدستورية، وإتاحة التصويت الحر للرجال والنساء، والشفافية والمحاسبة في دول المنطقة، ويصل تمكين المجتمع المدني ومشاركته في صنع القرار إلى درجات يستطيع فيها أن يؤثر على القرارات الرئيسية، كما ستحتل قضايا الصحة والبيئة محاور الاهتمام الرئيسية للمجتمع المدني، وسيدعم ذلك وضع المؤسسات البيئية ويقوي دورها في عملية اتخاذ القرار على المستوى الوطني. وعلى المستوى الإقليمي، سيكون هناك تنسيق وتعاون أكبر بين دول المنطقة على مستوى الوزارات المسئولة عن البيئة والمنظمات الإقليمية البيئية.

في هذا السيناريو تقرر دول المنطقة تسريع عملية التكامل والوحدة الخليجية، ما سيؤدي إلى بروز كتلة اقتصادية خليجية لها موقعها على خريطة العالم، كما يزداد تدريجياً تكامل وتعاون دول المنطقة مع محيطها العربي، وستتشكل كتلة اقتصادية عربية وتنشأ «منطقة تجارة عربية حرة»، تمتلك مصادر دخل متنوعة، ومتكاملة في مجالات البنى التحتية والنقل والطاقة والمياه والموارد البشرية. وسياسياً، سينتج عن ذلك انخفاض حدة التوتر الإقليمي، وعلى رغم أن المنطقة ستظل معرضة للتأثيرات الخارجية من الدول العظمى، فإن حل الخلافات والنزاعات سيتم عن طريق الحوار والتعاون الإقليمي.

وبحسب هذا السيناريو، ستنخفض معدلات النمو السكاني في المنطقة عنها في سيناريو السوق بسبب السياسات السكانية الفعالة التي تشمل التخطيط الأسري وحصول المرأة على حقوقها ودخولها سوق العمل، وارتفاع معدل التعليم، والاهم من ذلك التخطيط والسياسات الفعالة في إحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية عن طريق إصلاح التعليم وبرامج التدريب. وسيكون معدل النمو السكاني مقاربا لمعدلات التنمية في قطاع الخدمات والقطاع الاقتصادي وخطط التنمية البشرية. وهذا الانخفاض في معدل النمو السكاني في المنطقة سيؤثر بشكل إيجابي على البيئة، إذ سيؤدي إلى تخفيف الإجهاد المائي في المنطقة، يدعمه في ذلك انتهاج دول المنطقة التخطيط الاستراتيجي لإدارة الموارد المائية بهدف رفع كفاءة استخدام المياه وحماية الموارد المائية، ما يؤدي إلى تقليل الجهد المائي في المنطقة. وستضع معظم دول المنطقة المياه على قمة أولوياتها، والقيام بالإصلاحات المؤسسية المطلوبة لإنشاء بيئة إدارية شاملة وفعالة، وصوغ سياسات مائية يتم فيها التحول من جانب زيادة الإمدادات المائية وتعظيمها إلى جانب إدارة الطلب والمحافظة مع تطبيق مبادئ الإدارة المائية المتكاملة من كفاءة اقتصادية وعدالة اجتماعية واستدامة بيئية.

وستطبق دول المنطقة الكثير من الأدوات والبرامج الإدارية لتحقيق ذلك، مثل استرجاع حقوق المياه الجوفية ووضع تعرفة على استخدامها، وتطبيق برامج التعليم والتوعية، وتحديث التشريعات المائية وتطبيقها بعدالة اجتماعية، والتوزيع الكفء للمياه على القطاعات المستهلكة. إلا أن معدلات الطلب على المياه ستظل أعلى من الموارد المائية المتاحة وسيستمر استنزاف المياه الجوفية وتدني نوعيتها وسيصاحبه تملح الأراضي الزراعية وتدني إنتاجيتها (وإن كانت حدة هذا التدني أقل من السيناريو الأول)، إلا أن التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة والعالم العربي وتعاون وتكامل هذه الدول في مجال الإنتاج الزراعي بناء على الميزة النسبية سيؤدي إلى تعديل السياسات الزراعية الرامية لتحقيق الأمن الغذائي في المنطقة، الأمر الذي سيقلل من استهلاك المياه في القطاع الزراعي.

ويأخذ هذا السيناريو في الاعتبار شح المياه، الذي سيزيد الحاجة إلى المياه غير التقليدية (المياه المحلاة والمعالجة) لتلبية الطلب المتزايد وتغطية العجوزات المائية، ما سيرفع كميات إعادة استخدام المياه المعالجة بشكل كبير، ولكن مع أخذ الحذر الكبير في هذا الاستخدام والالتزام بالمعايير البيئية لاستخدامها.

في هذا السيناريو سيكون هناك تنسيق عال وتعاون كبير بين دول المنطقة في توجيه جهود البحث والتطوير في مجال تقنيات معالجة وتحلية المياه، وسيؤدي ذلك، بالإضافة إلى جهود التطوير العالمية، إلى انخفاض كلفة إنتاج وحدة الماء بواسطة هاتين التقنيتين في المنطقة بشكل كبير، وسيؤدي هذا الجهد البحثي المكثف إلى زيادة أو ثبات حصة الفرد الخليجي من المياه البلدية. وعلى رغم أن استخدام الطاقات المتجددة والنظيفة بالمنطقة، وخصوصاً الطاقة الشمسية، سيكون في تزايد، فإن حصة هذه الطاقات ستظل هامشية مقارنة بالطاقة الاحفورية، وستظل هذه الدول تعتمد على الوقود الاحفوري في تشغيل محطات التحلية، ولكنها ستتحول كلية إلى استخدام الغاز الطبيعي وتقنيات الإنتاج النظيف لتقليل الانبعاثات الغازية وتلوث الهواء الناتجة من محطات التحلية والطاقة، وكذلك سيتم تطبيق الكثير من الإجراءات التقنية لتقليل تلوث البيئة البحرية من المياه المرتجعة من عمليات التحلية، وسيؤدي ذلك كله إلى تخفيف الأثر البيئي لمحطات التحلية على البيئة البحرية في الخليج.

وفي هذا السيناريو أيضا تتجه الحكومات إلى تشجيع القطاع الخاص للمشاركة في عملية إنتاج المياه وخدماتها لزيادة كفاءة هاتين العمليتين ولتقليل الأعباء الاقتصادية عليها، ولكن سيتم ذلك بواسطة تكوين شركات مساهمة من المواطنين، وسيكون هناك اهتمام عال بالنسبة إلى شرائح المجتمع الفقيرة وذات الدخل المحدود عن طريق دعم خدمات المياه لهذه الشرائح لضمان حصولها على هذه الخدمات، ويتم تعويض هذا الدعم من خلال فرض غرامات عالية على شرائح المستهلكين الكبار للمياه.

في هذا السيناريو سيستمر النمو والتوسع الحضري، ولكن بمعدلات أقل من السيناريو السابق، بسبب انخفاض معدل النمو السكاني من جهة، ولاتباع منهجيات التخطيط الحضري المتكامل من جهة أخرى، وسيتم تطبيق سياسات بيئية تشمل قطاعات المواصلات والطاقة وإدارة المخلفات لتقليل التأثيرات السلبية على صحة الإنسان وسلامة البيئة. وسينتج عن ذلك تقليل حدة الطلب على الطاقة ومشكلات أقل في مجالي المخلفات وتدني جودة الهواء في المدن. إضافة إلى ذلك، ستكون هناك حماية أكبر للأراضي الزراعية المحدودة والأحزمة الخضراء في المدن بعدم السماح بالتوسع الحضري عليها من خلال قوانين وتشريعات صارمة لاستخدامات الأراضي وبتطبيق سياسات تشجع التوسع الرأسي.

وفي مجال الأمن الغذائي سيكون هناك تعاون وتنسيق عال بين دول المنطقة في مجال البحث والتطوير في تقنيات الري والزراعة الحديثة والملائمة لظروف المنطقة المائية والمناخية والترب السائدة، وستقوم الدول بعمل استثمارات كبيرة في هذا المجال ويزداد التعاون بين مراكز الأبحاث والجامعات والقطاع الخاص، وستنتج عنه زيادة في الإنتاج الغذائي وتقليل أو ثبات التدهور البيئي للأراضي، وتخفيف استيراد الغذاء من الخارج، وسيساهم ذلك في نمو مساهمة القطاع الزراعي في الاقتصاد الوطني والتنمية الاجتماعية - الاقتصادية للمواطنين. كما يتم الاستثمار في التقنيات الحيوية، بشكل متواكب مع الجهود العالمية، واستخدام علوم التقنيات الحيوية وهندسة الجينات الوراثية لزيادة الإنتاج الزراعي، وسيتم استنباط وإدخال محاصيل تتحمل الجفاف والملوحة، وسيكون هناك اهتمام كبير بالمخاطر الصحية والبيئية الناتجة عن إدخال المحاصيل المعدلة وراثياً في المنطقة. وتطبيق فعال لـ «بروتوكول قرطاجنة للسلامة الحيوية» والمتعلق بالتطبيقات السليمة للتقنية الحيوية في إنتاج الغذاء والتعامل السليم مع الأصناف المعدلة وراثياً ونقلها.

وسينخفض تحت هذه الظروف معدل تدهور وتدمير الموائل والأنظمة الحيوية بشكل كبير بسبب تطبيق خطط إدارة استخدامات الأراضي التي تهدف إلى تقليل ضغوط الإنسان وأنشطته الاقتصادية على البيئات الطبيعية الحيوية، وتبني قوانين فعالة لحماية التنوع البيولوجي والمحافظة على الأجناس من الانقراض، وتنظيم إدخال الأجناس الحيوانية المعدلة وراثياً والغريبة على المنطقة. وستقوم دول المنطقة بزيادة أعداد مساحات المحميات الطبيعية لتصل إلى المستويات والمتطلبات العالمية ولتعكس مختلف البيئات الطبيعية، ما سيؤدي إلى وقف نضوب الموارد الحيوية في المنطقة ومعدل تناقص الأجناس. كما سيتم في هذا المجال عن طريق التعاون الإقليمي بين دول المنطقة إنشاء المحميات الإقليمية التي تمتد إلى أكثر من دولة لتعزيز حماية التنوع البيولوجي وإنشاء مصارف للجينات والبذور والاستخدام الأمثل لها. وسيتم كذلك رفع الوعي البيئي للمواطنين من خلال إنشاء الحدائق النباتية والمعاشب والمتاحف الطبيعية.

أما بالنسبة إلى البيئة الساحلية والبحرية، فسيتم إيجاد توازن بين السياسات الاقتصادية والسياسات البيئية، وستتباطأ عملية تطوير وتنمية هذه البيئات بواسطة استراتيجيات حماية المناطق الساحلية والبحرية. وسيتم تطبيق خطط إدارية متكاملة للمناطق الساحلية، وزيادة مساحات المحميات البحرية وحماية المناطق الحيوية فيها لاستدامة الثروة السمكية. وسينتج عن ذلك تقليل معدلات تدهور البيئة الحيوية البحرية والتنوع البيولوجي والحفاظ على المخزون السمكي. وسيكون هناك تعاون إقليمي بين دول الخليج في إدارة البيئة البحرية والتصديق على الاتفاقات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالمحافظة على البيئات البحرية وتقليل التلوث الناتج من الأنشطة القارية.

وفي إطار هذا السيناريو تنمو صناعة تربية الأسماك لتلبية الطلب على البروتين السمكي، وسيلعب القطاع الخاص دوراً كبيراً في ذلك، ولكن ستلقى المخاطر المصاحبة لهذه الصناعات والمتمثلة في تسرب الأجناس الغريبة إلى البيئة البحرية وانتشار الأمراض والمخلفات المركزة لها وما ينتج عنها من احتمالات تدمير الموائل الطبيعية اهتماماً كبيراً وعناية فائقة من الدول في عمل البحوث اللازمة لتخفيف المخاطر واتخاذ الإجراءات الاحترازية ووضع التشريعات والقوانين المنظمة.

ومع تعاظم دور المنطقة في تصدير النفط للعالم وزيادة حجم الصناعات البتروكيماوية والصناعات الأخرى على سواحل الخليج ستستمر مخاطر التلوث النفطي وغزو الأجناس الغريبة وحجم الملوثات الصناعية. ولتقليل هذه المخاطر وتأثير الملوثات على البيئة البحرية، ستفرض بعض دول المنطقة تشريعات وتنظيمات شديدة وصارمة لحماية البيئة البحرية، مثل فرض المعالجة المتقدمة على مياه الصرف الصناعي قبل تصريفها إلى البيئة البحرية، وبناء التجهيزات الخاصة لاستقبال مياه توازن ناقلات النفط. وستؤدي كل هذه السياسات والاستراتيجيات البيئية إلى تبطيء عملية تدهور البيئة البحرية وفي بعض الحالات إلى وقفها وإعادة تأهيلها.

وبشكل عام يقل التدهور البيئي في ظل هذا السيناريو بسبب إعطاء البيئة اهتماماً أكبر واحتلال القضايا البيئية مرتبة أعلى في سلم أولويات دول المنطقة، إلا أن ضغوط سياسات الاستثمار والتنمية الاقتصادية عليها ستستمر.

المقال المقبل سيستعرض سيناريو «الأمن أولاً»، ويتصور عالماً مليئاً بالهواجس الأمنية يسوده عدم المساواة، تتدهور فيه القيم والأخلاق، وتتم فيه التضحية بالبيئة والموارد الطبيعية لتلبية الاحتياجات الأمنية

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1346 - السبت 13 مايو 2006م الموافق 14 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً