رؤية رسام الكاريكاتير هانيتش في صحيفة «زود دويتشه» بشأن العلاقات الأطلسية تثير الضحك والقلق في وقت واحد. فقد ظهرت المستشارة أنجيلا ميركل في رسم كاريكاتيري يوم الاثنين الماضي تجلس على طاولتها تكتب رسالة إلى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش المعلقة صورة الإهداء خاصته على الجدار وراء كرسيها وهو يرتدي تي شيرت كتب عليه: أنا أحب أنجيلا. على يمين أنجيلا، مسدس وقبعة كاوبوي وعلى يسارها علم الولايات المتحدة وخارج المكتب وقف هانز مونتفيرينغ نائب المستشارة ووزير العمل يتحدث مع فرانك فالتر شتاينماير وزير الخارجية الألماني الجديد ويقول له: ماذا سنصبح في القريب يا فالتر؟ الولاية الأميركية رقم 51؟
في وقت قصير جدا لا يتعدى ثلاثة أشهر عقب تسلمها منصبها في نهاية العام الماضي، استطاعت أنجيلا ميركل زعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم إعادة الأمور لحالها السابق بما يتعلق بالعلاقة الشخصية بين المستشار الألماني والرئيس الأميركي. وكانت هذه العلاقة الشخصية واجهت توتراً شديداً خلال عهد المستشار السابق غيرهارد شرودر بسبب مناهضة الأخير حرب العراق. وكانت هذه أول مرة يحصل توتر على العلاقة الشخصية بين المستشار الألماني والرئيس الأميركي منذ تأسيس ألمانيا الاتحادية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وليست شعبية بوش متدنية في الولايات المتحدة فحسب بل هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي يتمتع بسمعة سيئة عند الشعب الألماني. لم تكن ميركل لتجرؤ على كل هذا التقارب مع بوش خلال الحملة الانتخابية لأنها كانت تعرف مدى الضرر الذي سيلحق بها وبحزبها.
يشغل الدوائر السياسية في برلين تقاربان سعت لهما ميركل بعد وقت قصير على تسلهما منصبها الأول مع بوش والثاني مع «إسرائيل». بالنسبة للرئيس الأميركي كانت زيارة ميركل الثانية لواشنطن التي تمت أخيراً مهمة للغاية خصوصاً على ضوء تراجع شعبيته داخل بلده بسبب إخفاق سياسته في العراق والتفكك الطارئ على الائتلاف الدولي لما يسمى الحرب المناهضة للإرهاب. إدراكا منها أن كل كلمة انتقاد توجهها لسياسة بوش في هذه المرحلة ستزيد مصائبه، تغاضت ميركل حتى عن مطالبته بالإفراج عن شاب تركي كان يقيم في ألمانيا اعتقل في ظروف غامضة في أفغانستان ويقبع منذ سنوات في معتقل غوانتنامو. يشعر بوش انه كسب ميركل في صفه في مواجهة إيران. وهنا تعرض ميركل حكومتها الائتلافية في برلين لخطر الانهيار إذا فاجأت الولايات المتحدة العالم وقامت بعمل عسكري ضد إيران بداعي مسعاها لتدمير المنشآت النووية الإيرانية وتعطيل البرنامج النووي الإيراني عشرة أعوام على الأقل. فالحزب الاشتراكي المشارك في حكومة ميركل يعارض عملاً عسكرياً ويركز على التفاوض وتشجيع واشنطن للمشاركة بالمفاوضات التي تجرى بين الأوروبيين والقيادة الإيرانية.
ويعتقد المحللون في برلين أن على الولايات المتحدة الاستفادة من أخطاء غزو العراق وخصوصاً أنه بات واضحا للعالم أن القوة العظمى الوحيدة في العالم لها حدود أيضاً. ويشك هؤلاء على ضوء تراجع تأييد الشعب الأميركي لحرب العراق أن يفلح بوش في إقناع شعبه بحرب جديدة ضد إيران. لكن بين المحللين من يعتقد أن الإدارة الأميركية قادرة على غسل دماغ الشعب الأميركي مثلما استخدمت أدلة كاذبة عن نظام صدام حسين لتبرر حملتها العام 2003 على العراق.
لكن هناك عامل آخر يجعل ألمانيا ترزح تحت ضغط متزايد بسبب تصعيد النزاع النووي مع إيران. فقد كان موقفها واضحا حين استخدمت عبارات شديدة اللهجة في فبراير وردت على تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد حين هدد بمحو «إسرائيل» من الخريطة. وجددت ميركل كلامها الحاد حين دعيت من قبل لجنة اليهود الأميركيين في الولايات المتحدة لإلقاء كلمة في الحفل المئوي لتأسيس هذه اللجنة التي تعتبر الذراع الطويلة لـ «إسرائيل» في الولايات المتحدة. قالت ميركل أنه لا يمكن لأحد التشكيك بحق «إسرائيل» في البقاء وتعتبر الحكومة الألمانية تصريحات الرئيس الإيراني غير مقبولة، لا تحتمل وأكدت في الوقت نفسه أن ألمانيا ترعى هذا الحق في إطار مسئوليتها التاريخية تجاه «إسرائيل» من ثوابت السياسة الخارجية الألمانية.
كثير من المراقبين العرب في ألمانيا لاحظوا أن ميركل تجنبت انتقاد سياسة «إسرائيل» التعسفية تجاه الفلسطينيين وهذا ليس غريبا. فالسياسة الألمانية تجاه الشرق الأوسط أصبحت على وشك أن تصبح أحادية الجانب أي تعمل بما يخدم مصالح الدولة العبرية فقط. منذ سنوات لم يعد للعرب أصدقاء في الساحة السياسية الألمانية ناهيك عن عدم توافر مؤسسات عربية أو عربية ألمانية في برلين على مقربة من صناع القرار مقابل وجود مكثف لمؤسسات ومنظمات يهودية وإسرائيلية وألمانية وأميركية مؤيدة لـ «إسرائيل». أبرز هذه المؤسسات، فرع للجنة اليهود الأميركيين ومؤسسة أسبين. وكانت المخابرات الإسرائيلية(موساد) قد نقلت مقرها الرئيسي في أوروبا بعد استعادة ألمانيا وحدتها في العام 1990 من العاصمة البولندية إلى برلين. وأدت وفاة السياسي الليبرالي يورجين موليمان والسياسي الاشتراكي هانز يورجن فيشنيفسكي إلى غياب صديقين مهمين للعرب في ألمانيا.
في كلمتها بواشنطن تعهدت ميركل باستمرار تحمل ألمانيا مسئولية خاصة تجاه «إسرائيل» وبعد أن حددت موقفها تجاه تصريحات الرئيس الإيراني ثم تجاه حكومة حماس الفلسطينية التي سبق وأن طالبتها ميركل بالاعتراف بـ «إسرائيل» والتخلي عن العنف والاعتراف بالاتفاقيات المبرمة بين السلطة الفلسطينية السابقة و«إسرائيل»، مقابل مواصلة تقديم مساعدات مالية، أصبح واضحا للمراقبين أن ميركل تقف اليوم في صف بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت. ليس غريبا أبدا أن يشير السياسيون الألمان إلى مسئوليتهم الخاصة تجاه إسرائيل. لكن منذ العام 1993 بعد أول زيارة قام بها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى بون بعد أن وقع مع اسحاق رابين على اتفاقية أوسلو، أصبح الألمان يشيرون أيضاً على حق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة. ويرى محرر الشئون الخارجية شتيفان كورنيليوس في صحيفة «زود دويتشه» أن ميركل تمادت كثيرا في كلامها حديثاً. بينما يرى المراقبون العرب أنها خرجت عن النهج الألماني الذي كان يوصف بالاتزان والاعتدال وغضت النظر تماما عن انتقاد سياسية «إسرائيل» تجاه الفلسطينيين تماما مثلما فعل وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر الذي أمضى سبع سنوات في الحكم لم ينتقد «إسرائيل» مرة واحدة. وقد عبر غالبية السياسيين الألمان عن استيائهم لتصريحات أحمدي نجاد ووعدوا مثلما فعلت ميركل بالتعهد بحماية أمن «إسرائيل». هذا ما أكدته ميركل في كلمتها بواشنطن. لكن ما معنى هذه الكلمات؟ ثم ماذا بوسع ألمانيا عمله لحماية أمن «إسرائيل»؟ ولماذا لا يكترث أحد لأمن العرب الذين تهددهم «إسرائيل» بأسلحتها النووية؟ ولماذا لا ترفع ألمانيا وغيرها من الدول الغربية صوتها مطالبة «إسرائيل» بإفناء أسلحتها النووية أو حتى التوقيع على المعاهدة الدولية للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل التي وقعت عليها إيران؟
المؤكد أن «إسرائيل» التي تلتزم الصمت حيال المناقشات تعمل في خطة سرية وقد أعلنت أنها لن تسمح لإيران الحصول لا على برنامج نووي ولا على أسلحة نووية وتخشى «إسرائيل» فشل الإجماع الغربي فإيران بلد غني بالطاقة ومهم جدا للدول الغربية واي عمل عسكري ضد الجمهورية الإسلامية سيسفر عن كارثة أمنية في المنطقة كما سيتسبب بأزمة اقتصادية عالمية لأنه سيقود إلى ارتفاع كبير لسعر النفط، إذ سيزيد سعر البرميل على 100 دولار. التصريحات الأخيرة لميركل خلت من دعوة «إسرائيل» إلى إبداء التعقل وقبول قرار الناخبين الفلسطينيين وإظهار مرونة للتفاوض بحثا عن حل عادل. كما خلت من دعوة واشنطن إلى التفاوض مباشرة مع إيران. في وقت قصير جدا غيرت ميركل سياسة ألمانيا تجاه الشرق الأوسط
العدد 1345 - الجمعة 12 مايو 2006م الموافق 13 ربيع الثاني 1427هـ