الشعب والشغب مفردتان مختلفتان في المعنى والمحتوى، الثانية نتاج حركي للمفردة الأولى، فمن دون طاقة الأفراد لن تظهر في العلن أي حركة سواء صنفت بأنها سلمية أو غيرها. وحتى لا نقع في خطأ الالتباس بالتمييز، فإن مفردة الشغب ليست مطلقة وموازية لأي تحرك للشعب، بمعنى وقتما يوجد الشعب يوجد معه الشغب، لأن العنف إنما ينتج في حال توجست وشعرت هذه الفئة أو تلك بأنها محرومة من أبسط حقوقها، أو أنها مستهدفة فتحاول إظهار الاستياء من أطراف أخرى متسلطة، تستغل موقع صنع القرار لفرض قرارات مجحفة بحق تلك الجماعة، فتلجأ إلى العنف طريقاً للتنفيس عما يجول في نفوسها وإظهاره إلى العلن، فلعلها تجد في ذلك مخرجاً تتردد أصداؤه على المستوى المحلي والإقليمي، وتحرك جزءًا طافياً من رواسب المياه الراكدة.
مفردة الشعب تتركب من ثلاثة حروف، لكن في جوهرها نبض وروح تختلج، إذا سعيت في تلبية حاجاته وتوفير سبل الراحة تضمن للمحيط أو المجتمع الذي يعيش فيه سبل وعناصر السلام والهدوء، وهذا ما يتحقق فقط في المدينة «الأفلاطونية الفاضلة»، بينما ونحن نعيش في هذا الواقع الأليم بتجاربه، العسير بآماله، تتذوق فيه الأمم صنوف العذاب وحركات التطهير وأشكال المذابح. فبمجرد لمحة سريعة عن واقع الظروف في مختلف أرجاء المعمورة تجد الحروب والمجاعة والسخط متفشية حتى في الدول التي تصدح بشعار الديمقراطية.
ففي البلدان الغربية التي تتشدق برياحين الحرية، تجدها حتى في أحلك الظروف تتصدى لمظاهر الديمقراطية التي تترجم عبر المظاهرات، وكان أبرزها تلك التي شهدتها معظم العواصم الغربية كواشنطن ولندن وكانبيرا للاحتجاج على حرب العراق بمناسبة مرور ثلاث سنوات على الغزو.
وكانت احتجاجات حرب العراق ما هي إلا نقطة في بحر هائج من مسيرات غضب واستنكار، غالباً ما تكون ضد قانون ما، أو قرار ساهمت الحكومة في صوغه وأسفرت نتائجه عن توابع عكسية سلبية من وجهة نظر رجل الشارع، الذي يتخذ من الملك العام كالطرقات والشوارع المكان الأنسب للتعبير عن احتجاجه، وفقاً لمنهاج حضاري، لكن هذا لا يعني ألا تتطور هذه الظاهرة أو المسيرة أو الاحتجاج إلى الخروج عن المألوف ونشوب اشتباكات بين هؤلاء المحتجين وقوات الأمن الذين يحاصرون التظاهرة من كل زاوية تجنباً لأعمال العنف، تلك التظاهرات التي تنتهي في الأغلب بسقوط ضحايا وحملة اعتقالات وبلوغ نقطة القمع.
إذاً... ما هو المعيار الذي يعتمده رجل الشارع العادي ويصنف تلك التظاهرة على أنها سلمية وفي المقابل تجدها الأطراف الرسمية غير سلمية؟ هل هو حجم المظاهرة أو مغزاها والهدف الذي خرجت من أجله؟ أم هوية هؤلاء المحتجين سواء كانوا من موالين أو معارضين للجهات الرسمية؟ والى أي مدى تؤثر تلك التظاهرة وتنعكس سلباً على أداء وتحرك الجهات الحكومية باعتبار مواضيع التظاهرات مسائل حساسة ومحظور التطرق إليها، خصوصاً إذا كان ذلك يدخل في إطار ما يعرف بأنه يمس ويخدش الأنظمة.
في الولايات المتحدة مثلاً، أثار بوش سخط الشارع الأميركي ببعض قراراته، فترجم ذاك السخط عبر تظاهرات بسبب الحنق الشعبي علي سياسته الأحادية في شنه حرب العراق، مع العلم أن تلك التظاهرات رافقتها أعمال عنف ولم تخل من الاعتقالات. وآخر موجات الغضب ما أشعله برنامج بوش غير الشرعي بالتنصت على المواطنين الأميركان في العام 2001 بذريعة مكافحة الإرهاب.
في فرنسا، أيضاً احتج آلاف من الطلبة والشبان والعمال (المواطنين) على قانون العمل الأول الذي يسمح لصاحب العمل بتسريح أي شاب يقل عمره عن 26 عاماً من دون إبداء أي سبب لإقالته في غضون سنتين من عمله، وهذا القرار الذي صادقت عليه الحكومة بذريعة القضاء على البطالة قوبل بردة فعل معاكسة من مختلف القطاعات النقابية، والذي وجدته مجحفاً ويهدد مصير العمال ما دعا بها إلى الخروج بتظاهرات مليونية حاشدة ضد حكومة دومينيك دوفيلبان للتراجع عن موقفه من القانون وسحبه على الفور، إلا أن الحكومة في البداية بدلاً من الرضوخ لمطالب النقابات، أمرت باعتماد الحزم في ردع المتظاهرين واعتقالهم والزجّ بهم خلف قضبان السجون بل والحكم عليهم بفترات تتراوح بين 3 و6 أشهر.
إذاً... حال الاحتجاج والتظاهر هي حركة ديناميكية طبيعية تعبر عن يقظة أبناء المجتمع ودرايتهم الكاملة بما يجول حولهم، لكن غالباً ما ترتبط تلك الصحوة بالمجتمعات الحديثة التي تفتخر بكل ما تقدمه للمواطن من ديمقراطية وحرية لإبداء رأيه تجاه أي قرار يمس حياة شرائح واسعة من الشعب، وينظر إليه بأنه متعسف ويهضم حقوق الغالبية.
في الجهة المقابلة الأقرب من منطقتنا الشرقية نجد هناك أيضاً تظاهرات انطلقت في بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة، الأولى شهدتها جورجيا وأسفرت عن اندلاع ثورة سميت بالوردية. وعلى غرارها أيضاً الثورة «البرتقالية» في أوكرانيا، و«السوسن» في قرغيزستان، وآخرها ما شهدته روسيا البيضاء من احتجاجات عارمة على إعادة انتخاب الرئيس الكسندر لوكاشينكو لولاية ثالثة في انتخابات وصفتها المعارضة بالمزورة. تلك التظاهرات قوبلت بانتقادات معاكسة، فحين نجد أن الطرف الأوروبي، والأميركي خصوصاً، من أبرز المؤيدين والداعمين لتلك التظاهرة والمسيرات باعتبارها حقاً من حقوق الشعب، اعتبرتها روسيا غير مبررة.
التناقض في ردود الفعل يعكس الايديولوجية السياسية لدى الطرفين، الأول واشنطن الرأسمالية، وروسيا الاشتراكية (سابقاً)، والمعروف أن نظام لوكا من أشد المناصرين والمؤيدين للاشتراكية وهذا ما يبرر تأييد موسكو، فيما تقف واشنطن ضده لأن لوكا ينتهج عكس التيار الليبرالي الموجود قريبا من حدود أوروبا واستطاعت أميركا وقتاً ما أن تفرض سلطتها على بعض «الدويلات» السوفياتية السابقة في محاولة للتغلب على خصمها اللدود إبان الحرب الباردة (الثورات الملونة أبرز دليل على ذلك). الخلاصة تشير إلى أن المصالح هي الإطار الذي يحدد سلمية تلك التظاهرات من عدمها.
وبالترافق مع الزوبعة التي أثيرت حديثاً حول حوادث الشغب وما نتج عنها من إفرازات البعض اعتبرها خارجة عن المألوف والآخر غير ذلك، يقع المراقب العادي في خطأ التعميم والتقييم، في معرفة الجهة المخولة بتبرير مشروعية وقانونية تلك الواقعة، ما بين الأطراف الرسمية التي دشنت من جانبها حملة مناهضة لما عرف بـ «الملثمين» فيما هناك جانب قد يحاول «تفهم» حركة هؤلاء المجهولين، وبين هذا وذاك يبقى الطرف المحايد ينظر إلى كلا الطرفين في محاولة منه للتعرف على ما يجري بحيادية. وتقودنا تلك التصورات الافتراضية إلى نقطة الصفر وبداية المربع الأول داخل حلقة مفرغة وغامضة بين من هو المتهم ومن المذنب، ونغوص إلى حد التشكيك بحقوق المواطنة لتلك الأطراف بمجرد أنها خرجت كبقية مواطني دول العالم في مسيرة كانت سلمية أم لا، للتعبير عن حال الحنق والإحباط.
إذاً... لتفادي الوقوع في خطأ التعميم وتغليباً لأسس الحوار بين الأطراف، نجد أن خير علاج لذلك هو الجلوس على طاولة واحدة للدفع بالحوار والتفاوض بين الطرفين الرسمي والمعارض، والتعرف على الأسباب الحقيقية لتلك الحوادث، تجنباً للوقوع في براثن الطائفية
العدد 1344 - الخميس 11 مايو 2006م الموافق 12 ربيع الثاني 1427هـ