العدد 1344 - الخميس 11 مايو 2006م الموافق 12 ربيع الثاني 1427هـ

مقاربة إنسانية للفكر وعلوم الإسلام

نجاح كاظم comments [at] alwasatnews.com

توجد حاجة ماسة إلى مقاربة انسانية لفكر وعلوم الاسلام. يقدم القرآن الحكيم لنا صورة واضحة عن هذه المقاربة عندما يتكلم عن البعد الانساني في خطابه مع الرسول الأعظم (ص): «وما أرسلناك الا رحمة للعالمين...» (الانبياء: 107).

هناك أكثر من 160 آية قرآنية تخاطب الانسان بـ «يا أيها الناس...»، وهناك آيات كثيرة تشير الى «بني آدم»، بكلمات أخرى، بني البشر، وكذلك الكثير الآخر من الآيات التي تبدأ بـ «يا أيها الانسان...».

ويركز الخطاب القرآني على الانسان قبل كل شيء عندما، على سبيل المثال لا الحصر، يتكلم عن وحدة الأصل عنده (أو وحدة الانسانية) «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء» (النساء: 1).

كما أن القرآن في آياته يركز على واحد من أهم خصائص الانسان، الحوار، أو القاسم المشترك بينه وأخيه الانسان، وقدرته على الحوار كلامياً أو ذهنياً.

وخطاب القرآن بكل رحمة وشفقة، وفوق أسوار قلعة واحدة (تسمى دار الاسلام) ليصل الى جميع الناس ويشجعهم على التلاقي والتداخل، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وثقافاتهم. بينما ذهنية القرون الوسطى مع ثقافة حصرية انعزالية ترى العالم وكأنه دار حرب، والعنف وقواعده كأمر طبيعي.

أليست هذه غطرسة عندما تضع نفسها فوق الآخرين؟ أليست هذه نسخة المسلمين الأقدم لما يسمى بصراع الحضارات؟ ما يعطي لابن لادن وأمثاله الرخصة «الشرعية» في القتل، فضلاً عن ثقافة القتل المستمر بين المسلمين في دار الاسلام؟ أليس هذا صراع (داخل الحضارة الواحدة).

كما أن علم الاجتماع، كان ومازال، غائباً من المناهج والدراسات التقليدية للمدارس الاسلامية. ألم يحن الوقت الى لعب دوره المهم؟ بالنسبة إلى الكثير من المتخصصين التقليديين فإن فهم الفعليات الجماعية للانسان وصدمتها على المجتمع أمر غير مهم اطلاقاً، وكأنما الانسان وأفعاله الفردية والجماعية قد توقفت منذ ألف عام.

معرفة القواعد الاساسية لفعالية الانسان تعطي صورة وافية عن الطبيعة الانسانية وسلوك الإنسان وخفاياه، ما يساعد على سبر سيكولوجية الانسان.

بعض القراءات الكلاسيكية ومقاربات علوم الدين المنحدرة من القرون الوسطى، ومازالت متبناة من قبل الكثير من المسلمين، ليست خارجة عن السياق التاريخي والاجتماعي فحسب، وانما أثناء وضعها وتأليفها كانت متأثرة بسيكولوجية كتابها.

يزيد النضج الاجتماعي لأي مجتمع من حركته ونموه وابداعه، فضلاً عن تناسق وحداته. ويمكن قياس قوة نسيج المجتمع عند معالجته لأمور: الأقليات الاثنية، المرأة، الفقراء، المعوقين.... إلخ.

والشيء الاهم، الحاجة الماسة إلى دراسة الفلسفة وانعكاساتها الايجابية على الفعاليات المختلفة.

المدارس الفكرية في الاسلام، السنية والشيعية على حد سواء لا تشجع على دراسة الفلسفة وعلومها خشية من آثارها السلبية على عقل المسلم وانعكاسات كل ذلك على العقيدة والمبادئ الاسلامية. ونرى اليوم استحواذ جانب التراث على الأعمال الفكرية لعلماء الاسلام والمتمثل خصوصاً في الفقه (ومقاربته القانونية قروسطية والفاقدة لكل الابعاد الفلسفية والسيكولوجية والاجتماعية الحديثة).

فأصبح الفقه (أو الشريعة) هو الاسلام والاسلام هو الفقه (أو الشريعة) وكأنا الاثنين يمثلان طرفي معادلة رياضية حيث لا يمكن تعريف الاسلام الا من خلال الفقه والشريعة أو استخدام الشريعة (أو الفقه) مرجعيةً لتفسير معنى الاسلام.

ويعود هذا الأمر الى جذوره التاريخية وللفترة التي سبقت عصر الانحطاط بعد وصول المغول والتتر الى حدود العالم الاسلامي.

فبعد عصر الانفتاح والعلم والمعرفة الذي شهدته الحضارة الاسلامية وخصوصاً ابان المرحلة العباسية وحركة الترجمة الكبيرة من قبل «دار الحكمة» وغيرها، بدأت تظهر علامات الركود في حركة الأمة.

تهافت الفلسفة

ويمكن اعتبار بداية حقبة الجمود عند المسلمين ما كتبه الامام عبدالقادر الكيلاني في كتاب «الاعتقاد» المركز فيه على أمور العقيدة في مطلع القرن الخامس الهجري. وشهد نهاية هذا القرن انهماك الامام أبوحامد الغزالي في صراعه الشهير مع الفلسفة واصدار كتابه المعروف «تهافت الفلسفة».

وعلى رغم رفض الغزالي للفلسفة فإنه أبقى دوراً لعلم المنطق ومبادئه واعتباره أداة تفكير جيدة.

وتبرأ تلميذ الامام الغزالي أبوبكر بن العربي من كل الأعمال الأدبية الكبيرة للجاحظ والمسعودي وغيرهما. وأسست هذه التطورات بدايات عصر «البدعة»، إذ دعا ابن العربي الى الاحتراز من الجاحظ وغيره ممن أسماهم «بالمبتدعة المحتالين» وطلب مقاطعة أهل «جهالة بحرمات الدين» والذين لا غرض لهم سوى «تسهيل المعاصي على الناس».

كل شيء لا يوائم تصورات العلماء أو الأئمة في هذا الاتجاه اعتبر بدعة كما في كتاب «الاعتصام» للامام الشاطبي الذي أعلن أن البدعة «دعوى العقل»، «فالعقل غير مستقل البتة، ولا ينبني على غير أصل، وانما ينبني على أصل متقدم باطلاق، ولا يمكن أصل مسلم الا عن طريق الوحي».

والبدعة لهؤلاء «الاختراع على غير مثال سبق» وهي اما «في ضلال مبين» إن كانت من غير قصد، أو «كفر بالشريعة والشارع» ان كانت عن قصد.

وجاء بعد عصر البدعة دور التكفير بالمتصوفين كما رأى ابن الجوزي، واحد من مشاهير التكفيريين، إذ أقام على المتصوفة النكير وضبطهم «بالجرم المشهود» في «تلبيس ابليس» عليهم كما يقول عنوان كتابه المشهور.

وبين هذه الحقبة الزمنية والمقبلة المتجسدة بالامام ابن تيمية وما بعده كانت هناك فترة خواء فكرية وقلة انتاجية عقلية وندرة في تعريب أعمال الآخرين كما حدث في صدر الحضارة الاسلامية.

رفض الامام ابن تيمية، واضع الأسس العملية للسلفية، بداية القرن الثامن الهجري، علوم الفلسفة والمنطق واعتبر الاثنان تهجيناً للاسلام. تبع الامام ابن تيمية تلميذه السيوطي المتميز بروحانيته ورفضه المؤكد للمنطق وأضاف السيوطي هذه المرة رفضه لعلم الكلام.

وأدت هذه التطورات الكبيرة وما أعقبها الى تبعية العقل المطلقة للنقل بل تغييب العقل واستخدام «الوصاية العقلية» المسموحة فقط لهؤلاء العلماء، بالتفكر نيابة عن الآخرين، وغلق باب الاجتهاد وتأسيس عقلية النقل والقياس (قياس الحاضر من فهم الماضي) وتحقيق ما كتب في الماضي لواقع حاضر متشابه العوامل مختلف الظروف.

كان هذا بداية عصر الانفكاك المرعب بين العقل والشرع، أي العقل والحياة، وبداية الفصل بين الدين والثقافة ممهداً الطريق لانكماش الاسلام على نفسه وتميزه بموقف دفاعي مع آلية حماية ذاتية - التعصب. التعصب تجاه الآخر (وان كان مسلماً) وتزمتاً تجاه الذات والتشدد في محاسبتها على ذنوبها المتخيلة.

كما ساهم في هذه الردة الفكرية والثقافية، بشكل أساسي، احتلال المسلمين من قبل السلاجقة للاقسام الشرقية في القرنين الخامس والسادس الهجريين وحروبهم المستمرة مع البويهيين والخراب الناتج عن ذلك ثم تبعتها الحروب الصليبية الأولى وبعدها المغول والتتر عند خرابهم الهائل لبغداد بعد العز الحضاري الذي شهدته ومجيء دور الأتراك في المرحلة العثمانية لترسيخ الانحطاط فيما بعد.

وشهدت الأمة بروز علماء ومفكرين كبار خصوصاً كابن رشد وابن حزم في الأندلس أو ابن خلدون وغيرهم، لكن لم يستطع هؤلاء على رغم قيمة الأعمال التي جاؤوا بها من وقف حدة الانحدار والتدهور في الأمة.

وتميزت هذه الحقبات العسكرية/ السياسية المضطربة تارة والمستقرة تارة أخرى، أولاً: بتدني معارف السلالات الحاكمة وأميتها الثقافية وقلة تعريبها لأعمال الآخرين وصبغتها بتشدد ديني لضمان شرعيتها عند الناس.

ثانياً: سيادة صفات البداوة والرعاة على الأقوام الآتية من خارج حدود المسلمين وكان ذلك واضحاً عند السلاجقة والمغول على وجه الخصوص. ويعتقد أن وصول المغول من غرب آسيا الى قلب مناطق العالم العربي والاسلامي قد ساهم في تأسيس مفاهيم القبلية وتسلط قيم العشائرية الموجودة اليوم، ما ساهم، مع الصحارى الشاسعة، في بداوة العالم العربي وحتى الاسلامي بشكله المتعارف عليه.

وانتقال عملية «التطهير» لكل ما يعتقد أنه ليس اسلامياً في الفكر والسلوك وغيرها والارتداد في عملية «الأسلمة» من المجتمع الى الدين الاسلامي نفسه.

ثالثاً: غياب العقل وسيادة النقل، ما أدى الى تضاؤل الفاعلية الانسانية ودوران النص حول الانسان، وليس التفاعل بين الاثنين، العقل والنص، في ضمان استمرارية الحركة والحياة.

مهدت هذه التطورات السلبية لمرحلة انحطاط طويلة، وخصوصاً بعد فترة العثمانيين المريرة، التي استمرت الى منتصف القرن العشرين ليظهر لنا أئمة جدد مع أفكار طابعها الخارجي تحمل مظاهر الجدية والعملية الواقعية بينما محتواها الداخلي كان اعادة انتاج لما حدث بعد القرن الخامس الهجري بسبب استخدامها أدوات ونظم المعرفة القديمة نفسها، فضلاً عن حضور البيئة الثقافية للقرن الخامس الهجري وما بعده في عمق هذه الأفكار.

وأدت الأفكار الجديدة في افراز معادلات سياسية اجتماعية وحتى سيكولوجية جديدة كما في فكر المودودي وتعمقه (وقسم من يرى اختراعه) لمصطلح «الحاكمية لله» أو «تطهير» أكثر للاسلام ومجتمعه من «الشوائب الخارجية» وضمان «نقاء الاسلام واتباعه» بحصرهم داخل حدود متوهمة، وأفكار ذات استعلائية على الآخر بشكل غير مسبق له، كما في «جاهلية القرن العشرين» والأعمال الأخرى للسيد قطب. والنتيجة الطبيعية لمثل هذه الأفكار الجديدة مع تراث ضخم مانع للعقل والتفكر في اداء دورهما لتبلور مرحلة تكفيريين في أشد صورها لم تشهدها الأمة الاسلامية منذ زمن الخوارج في صدر الاسلام.

مرة أخرى شهدت الأمة بروز علماء ومفكرين كبار أمثال جمال الدين الأفغاني، محمد عبده وغيرهم، وفيما بعد محمد باقر الصدر وغيرهم، لكن هؤلاء لم يستطيعوا وقف زخم حركة الأمة نحو الانحدار.

التوسع أو التشدد في المرحلة التكفيرية، لمجاميع مؤسسات، نشهدها اليوم والرافضة للدخول في التاريخ، والمانحة لها فقط حق التفكير والتفسير والشرعية وغيرها لما هو اسلامي أو غير اسلامي يقوم على شكلين أساسيين، الشكل الأول، الظاهرية أو الخارجية، المتأثرة بأفكار سيد قطب والمودودي وغيرهم فضلاً عن فقه المبكرين كابن تيمية في اعلان الحرب على الدولة والمجتمع، والحق في قتل الجميع الا انفسهم. والمثال العملي، على سبيل المثال لا الحصر، هو المجموعة الاسلامية المسلحة (AIG) في الجزائر التي ارتأت لها حق القتل لكل المجتمع الجزائري عدا مجموعتها الصغيرة لتميزها، كما تعتقد، وحدها بالنقاء والأصالة الاسلامية وبالتالي تملكها فقط للشرعية الالهية. وهذه المجاميع المعزولة عن شرائح واسعة من المجتمع ذات صدى اعلامي هائل بسبب طبيعة ومدى ودرجة شدة أعمالها الارهابية.

الشكل الثاني، الخفية أو الداخلية، الممثلة لقطاعات واسعة من الأمة والمتجسدة بمؤسسات دينية واجتماعية تقليدية تمتلك حق الاحتكار للدين وتعتبر نفسها مرجعيات للمسلمين وتتعامل، بشكل عام، مع الأفكار الدينية من دون وضعها في سياقها الداخلي القائم على الأعمال العقلية أو الأبعاد التربوية الثقافية الحديثة وغير ذلك. ومثال ذلك القوى الاجتماعية التقليدية التي ترسخ من افعال «غسل العار» على سبيل المثال، أو فتاوى شيوخ الاسلام التقليديين التي تحكم على العلمانيين بالردة (وبالتالي هدر الدم) أو قتل المدنيين في العراق باسم الجهاد ضد المحتل كمثال عملي ثانٍ

العدد 1344 - الخميس 11 مايو 2006م الموافق 12 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً