تمثل العداوة حالاً من حالات الاختناق الذاتي بما تحمل من عقد شخصية وشعور بالانتقام وإحساس بالاستعلاء على الآخر واستعداد لنفيه ومحاصرته وسعي دائب للتخلص منه، وما يستتبع ذلك من تداعيات خطيرة تترتب على الأفكار التدميرية الناتجة منها. وتنطلق العداوة من جملة مناشىء من أبرزها:
أولاً: الحسد بما يمثله من حب زوال النعمة عن الآخر وما يتضمنه من رغبات وتمنيات سلبية تجاهه.
ثانياً: سوء الظن بالآخر فهو من سبل خلق العداوة والبغضاء بما يوفر من مناخ يسوده فقدان الثقة بين الأفراد والجماعات والتطلع بشكل دائم إلى التركيز على سلبيات الآخر بعيدا عن إيجابياته. وقد نهى الله عن هذه الآفة فقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم» الحجرات: 21).
ثالثاً: عدم تفهم الآخر والإمعان في النظر إليه من زاوية ضيقة من خلال ما نكونه عنه من انطباعات من دون أن نقرأه كما هو... وقد ورد في الحديث الشريف ما يشير إلى الدور السلبي للجهل بالآخرين: «لو تكاشفتم لما تدافنتم».
ويضاف إلى ذلك مسألة أخرى تبعث على العداوة والكراهية وهي تحكم المطامع والمصالح والأهواء الشخصية بالإنسان إلى درجة تعميه وتصمه وتدفعه إلى عدم اتباع الحق ولو كان واضحاً جلياً، ومعاداة الآخرين وإن كانوا طلاب خير وحق، وبالتالي الوقوف في وجه قضاياهم المحقة، قال تعالى: «إن يتبعون إلا الظن وما تهوى أنفسهم» (النجم: 32). وقد حدثنا تعالى عن بني إسرائيل أنهم كانوا كلما جاءهم نبي بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، «أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون» (البقرة: 78).
وأما بالنسبة إلى آثار العداوة، فإن نتائجها السلبية تطاول الفرد والمجتمع، فهي على المستوى الفردي تعقد حياة الإنسان وتجعله في عزلة عن الآخرين وتشحن قلبه بالحقد والبغضاء بما يوتر حياته وحياة من حوله. وأما على المستوى الاجتماعي، فإن العداوة تمثل عنصراً من عناصر تشظي الأمة وتمزقها أحزاباً وشيعاً، الأمر الذي يضعف قوتها ويسقط هيبتها ومكانتها من النفوس ويجعلها وثرواتها نهباً لكل الطامعين والطامحين. وقد حدثنا القرآن كيف أن الله من على العرب إذ أخرجهم من أتون العداوة والبغضاء وألف بين قلوبهم بالأخوة الإسلامية التي تجعل المسلم لا يحمل للآخر إلا الحب والخير، ولا يتمنى له إلا الصفاء والسعادة والهناء: «واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخواناً» (آل عمران: 301).
لقد أراد الإسلام للناس أن يزيلوا من قواميسهم لغة العداوة ومصطلحاتها وأن يرفعوا قبل ذلك من نفوسهم كل منطلقاتها ليكون الإنسان إنسان الخير والرحمة والمحبة لكل الناس، حتى أننا وجدنا في سيرة النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين وصحابته المنتجبين أنهم كانوا يحملون الحب حتى لأعدائهم ويتألمون حتى لمن يحمل السيف بوجوههم لأنهم لا يريدون أن يكونوا حجر عثرة في طريق أي إنسان إلى الجنة، ولأنهم لا يبغضون في الكافر شخصه، بل كفره وعداوته وتمرده على الله، وأكد الإسلام رفض منطق العداوة الدائمة وإبقاء المجال مفتوحاً مع العدو للعودة إلى جادة الصواب، وبالتالي إلى ترميم العلاقة معه بما يتيح الفرصة لإعادة بناء ما تهدم ووصل ما انقطع.
وعلى ذلك، فإننا نرى أن الدين لا يمكن إلا أن يزرع المحبة ولا يحمل في تعاليمه منطق العداوة. ولهذا فإن ما حصل ويحصل بين أبناء الديانات السماوية من تصارع ينطلق من الظلم والبغي وتجاوز القيم الدينية والتمرد على تعاليم الرسل، ليس ناشئاً من الدين ذاته، فإن الدين لا يمكن أن يحمل في مبادئه وأفكاره الحقد والبغضاء تجاه بني البشر. ومن جهة أخرى، فإن الدين قد وقع ضحية المصالح الانية والمطامع الشخصية للكثير من السياسيين في العالم، الذين أسقطوا أفكارهم على الدين وأرادوا التستر ليقودوا الكثير من الحروب والصراعات هنا وهناك، مستغلين قدسية الدين وطهارة رموزه. وعلى هذا الأساس، فإن ما يثار ضد الإسلام على المستوى العالمي من أنه دين الإرهاب، وأنه الدين الذي أسس للعداوة بين الناس ولم ينتشر إلا تحت راية السيف، هو كلام يحمل كل التجني على الإسلام وعلى سيرة النبي (ص) وهديه وسلوك غالبية المسلمين، ويمثل مجافاة للحقيقة التاريخية التي تؤكد أن المسلمين كانوا «أرحم الفاتحين» وأنهم أقروا أهل الديانات الأخرى على شرائعهم وشعائرهم ولم يكرهوهم على الدخول في الإسلام، وهذا ما يعترف به الكثير من المؤرخين الغربيين المعاصرين الذين أكدوا في كتاباتهم أن الأقليات عاشت في ظل الدولة الإسلامية بأجواء أفضل بكثير مما عاشته في ظل حكم ينسب نفسه إلى الأديان الأخرى.
إننا نفهم جيداً أن ما تعمل له الكثير من الإدارات الغربية وبعض وسائل الإعلام الموجه في الغرب هو تسويق الإسلام كعدو أوحد للحضارة الغربية، وتعمل أجهزة ترتبط بالصهيونية العالمية على الترويج لذلك إمعاناً في إحداث انقسام بين المسلمين والشعوب الغربية لمصلحة الكيان الصهيوني ولتعميق الشرخ السياسي وجعله شرخاً ثقافياً بنيوياً وفكرياً. إن هذا الحقد الأعمى الذي يوجه ضد الإسلام كدين وضد المسلمين كشعوب وكمواقع سياسية واقتصادية وثقافية، لا ينطلق من حالات جهل بالإسلام وقيمه في كثير من الأحيان، بل من مؤامرة كبرى تحيكها الدوائر المستكبرة لتسهيل مهمتها في السيطرة على بلاد المسلمين ولخلق مناخات سياسية وأمنية تكون حاجزاً بين الشعوب الغربية وبين الإسلام الذي أظهرت استطلاعات الرأي المتعاقبة بأنه الدين الأكثر انتشاراً في العالم على مستوى المنتمين الجدد إليه.
إننا في الوقت الذي ندعو الدوائر الغربية إلى الخروج من دائرة استعداء شعوبنا واستهداف قضايانا، ندعو الطليعة الواعية في الأمة إلى الدخول في حوار منتج مع الشرائح الغربية المنفتحة على الإسلام وعلى المعرفة. كما ندعو الأمة إلى تزخيم حركة الحوار الداخلي بين أطيافها المتعددة ولكن على أساس عقلية الحوار، بل على أساس حل مشكلات الواقع ورسم آفاق النجاح في المستقبل بعدما قتلتنا الطائفية والفئوية والحزبية، وغرقنا في سجال الطرشان الذي أدخلنا في أنفاق المشكلات، بدلاً من أن يخرجنا إلى فضاء المواقع وأفق القضية الكبرى
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1344 - الخميس 11 مايو 2006م الموافق 12 ربيع الثاني 1427هـ