كلمة خطيرة أطلقها الأمين العام لحزب الله اللبناني السيدحسن نصرالله، جعلت القلوب تبلغ الحناجر خوفاً وفزعاً، حين أكدا وبالضرس القاطع وجود «مخطط خطير»، وهو عبارة عن «مشروع أميركي صهيوني بدأ منذ مدة يقوم على تصوير إيران والشيعة في العالم أعداء للعرب والمسلمين السنة»، ودعا مفكري وأحزاب العالم العربي والإسلامي إلى تحمل مسئولياتهم في مواجهة هذا المشروع، وقال: «حتى أن البعض يتحدث عن المشروع الصفوي»، مؤكداً أن «هذا آخر ما في جعبة الأميركي الصهيوني من مكر وخداع، ولو استطعنا تجاوز هذا المخطط الأخير فلن يبقى في جعبتهم شيء».
قبل مدة ومن خلال متابعة ما تكتبه إحدى النائحات على نظام صدام البائد في العراق، في موازاة زميلها الهرم في عموده اليومي، هذا الثنائي المتناقض في كل شيء، توافقا على أقصوصة «المشروع الصفوي». كان الاعتقاد السائد، بانها مسألة امرأة مثكولة بقائد أم المعارك، ورجل مصاب بانفصام في الشخصية، يغير توجهاته الايديولوجية بين حين وآخر، كما تغير الأفعى جلدها، ويستبدل ولاءه الفكري بالسرعة التي يستبدل أحدنا حذاءه. إلا أن خطاب السيدنصر الله، وما سبقه من تصريحات رسمية معروفة بخدمتها للمشروع الأميركي، كالحديث عن «هلال شيعي»، والتشكيك في ولاء الشيعة لأوطانهم، جعل من البحث عن حقيقة ما صراح به نصر الله، وهو الرجل الذي لا يلقي الكلام على عواهنه، أمرا في غاية الأهمية. ثم إن الحوادث ذات البعد الطائفي المقلق في بلدنا وغيره من البلدان، عامل آخر يدفع إلى تقصي دوافع ما يجري.
ويبدو انه وبعد الفشل الأميركي في العراق، وفشل محاولات جر الطائفتين إلى اقتتال أهلي، بدأت مقالات «الصفوية» تترا، فتركز الحديث في وجود مشروع صفوي يتهدد أهل السنة! وما جعل من تلقف هذه الدعوى أمرا ميسورا، هو الشحن الطائفي المستمر والموروث التاريخي المتخلف لدى المسلمين، فانتشرت مزاعم المشروع الصفوي في كل أنواع الهشيم، من عروبيين قوميين، ومتعصبين من السلف وغيرهم، واخترعت كل فئة أهدافا وملامح بحسب تواجهاتها، فتعددت دعاواهم ولكن اختلفوا في المشروع الصفوي المزعوم مع الاتفاق على وجوده!
وما يثير الشكوك القوية، أن فكرة وجود «المشروع الصفوي» المزعوم ليست محصورة في قطر أو قطرين، بل منتشرة في الكثير من الأقطار العربية والإسلامية، وهي تسري بصورة مذهلة، ما يبرهن على وجود أيد عملت بتخطيط مسبق، وقامت أخرى بتنفيذ المخطط عن سبق إصرار وترصد، وتبعهم همج رعاع ينعقون مع كل ناعق... على شاكلة عقل القطيع الذي ينتابه الذعر لمجرد ذعر أحد أفراده.
الأخطر في الأمر هو محاولة ربط الشيعة أجمعهم بهذا المشروع، إذ لا يتردد بعض الكتاب في الافتراء الوقح وتزييف الحقائق الدينية والتاريخية من أجل إثبات وجود تشيعين: التشيع الصفوي المليء بالعنصرية والحقد على الإسلام والعرب، والتشيع العلوي العربي الأصيل، ويلف هؤلاء ويدورون لكنهم ينتهون إلى أمر واحد، وهو أن الشيعة كلهم صفويون!
بعض هؤلاء الكتاب، يخترع للشيعة عقائد من خيالاته، أو ينفي عنهم عقائد تعد من المسلمات عندهم، فيدعي مثلا أن عادة تجديد الحزن على سيد الشهداء بدعة صفوية تستهدف شحن الأجواء وتكريس الحقد على العرب! مع العلم أن تجديد الحزن على الحسين (ع) عادة موجودة منذ القرون الأولى للهجرة، بينما الصفويون لم يتحولوا إلى التشيع إلا في القرن العاشر الهجري. حتى حديث «الأئمة الإثني عشر» قدم له تفسيرا خاصا من عنده، وما دون تفسيره يعد من بدع التشيع الصفوي! هذه وغيرها ترهات وأوهام سردها أحد الكتاب «المحليين» في أربع حلقات، زعم أنها بحث علمي، واستدل بحوادث وأخطاء يمكن أن تنطبق على أية ثورة وأية دولة، وليست الثورة الإيرانية وحدها.
وحتى الحقوقيون متعددو التوجهات، الذين يتحركون ويجولون بين المنظمات العالمية لنصرة قضايا وطنهم وشعوبهم، ما داموا ينتمون إلى طائفة معينة فهم في نظره يستغلون التوجه العالمي نحو حقوق الإنسان لـ «تنفيذ أجندة الصفوية الجديدة»! بينما لا تجد مقالاً واحداً لهؤلاء الكتاب يستنكر نقل ملف الأحوال الشخصية جهارا عيانا إلى الخارج ودعوة لندن وواشنطن إلى التدخل في شأن داخلي بحت من قبل مجموعة من النسوة البحرينيات، للضغط لإقرار القانون بالكيفية المطلوبة رسمياً.
ومن أجل التظاهر بالحيادية، «يتباكى» بعض هؤلاء على ما جرى للشيعة والتشيع العربي الأصيل في التاريخ، ولكنه يعود إلى النتيجة التي يتخيلها مسبقا، حين يزعم أن دعاة التشيع المعتدل وجدوا صعوبة بل استحالة على مواجهة الحملة الصفوية في زمن الصفويين. ففي نهاية المطاف أن الشيعة العرب الحاليين وبسبب بعدهم عن هذه العقائد التي افتراها أو نفاها عما أسماه «التشيع العلوي الأصيل»، هم شيعة صفويون! وهذا يقود إلى نتيجة تلقائية في وجوب التصدي لهم لأنهم جزء من المشروع الصفوي الفارسي!
ولأنه من الصعب الزعم بان العدو الحقيقي والوحيد هم الإيرانيون، يتم الترويج بتلاقي المصالح الإيرانية الصفوية مع المصالح الأميركية في عدائهم للإسلام وأهل السنة! ويضربون مثلا بذلك في تعاون إيران مع أميركا في إسقاط طالبان وبعدها صدام، ويتغافل هؤلاء عن أن طالبان صنعة أميركية ولو بطريقة غير مباشرة، وكان من أهداف صنعها إحداث اقتتال شيعي سني يربك دول المنطقة جميعا، وهو ما تحقق بعد سيطرتها على غالبية أفغانستان، أي تحقيق الأهداف نفسها التي ينطلق منها المخطط الحالي. وأقدمت هذه الحركة التكفيرية على ارتكاب مجازر في مزار شريف فقتل في أيام معدودات آلاف من الهزار الشيعة سنة 1998 بعد سيطرتها على المدينة، ولم نسمع إدانة من هؤلاء الكتاب أصحاب فزعة «الصفوية»، ولم تتحرك فيهم نخوة عروبية تجاه ما حدث للعراقيين عموماً والشيعة العرب خصوصاً على يد الطاغية صدام، وهؤلاء يعرفون دور الطاغية في تنفيذ الإرادة الأميركية في حربه ضد الجار المسلم إيران.
أحد مروجي دعوى المشروع الصفوي العنصري، لم يتورع عن الكذب المكشوف بالقول إن من جملة ما وضعته المدرسة الصفوية، كتاب «بحار الأنوار» لمؤلفه الشيخ محمد باقر المجلسي، قدم فيه عددا من الروايات تخدم المشروع الصفوي الذي يعاد تجديده وتفعيله حاليا! هذا مع أن كل ما جمعه المجلسي (توفي سنة 1111هـ) في كتابه موجود في كتب الأقدمين، وقام بجمعه حتى لا يضيع، وذكر مصادر رواياته.
وحتى ما يذكره بعض أهل السير من زواج الإمام الحسين بن علي (ع) بشهربانو ابنة آخر ملوك الفرس الساسانيين، هذا الزواج عبارة عن أسطورة في رأي الكاتب تهدف لربط القومية بالمذهب الصفوي الشعوبي الحاقد على العرب والمسلمين، مع أن أول ملوك الصفويين هو إسماعيل الصفوي ولد في سنة 892هـ، بينما هذه الرواية تذكرها كتب التاريخ منذ القرن الثاني والثالث الهجري، وزعم هذا الأفاك أن الرواة الشعوبيين هم الذين اختلقوا هذه الأسطورة، ومنهم إبراهيم بن إسحق النهاوندي المتوفى سنة 269هـ، وغيره.
وبغض النظر عن مدى صحة الرواية، ما أدرى هذا النهاوندي بما ستؤول إليه إيران بعد سبعة قرون من وفاته وخصوصا أن الأجواء السياسية آنذاك كانت معادية لأهل البيت (ع)، بينما التحول المذهبي حدث قبل ما يقارب الخمسمئة عام، (فكم هذا الرجل داهية أو ربما كان الوحي ينزل عليه بعلم الغيب بشأن التحول القادم في إيران، فاحتاط باختلاق هذه الرواية).
وللوصول إلى الغرض المطلوب، لا بأس بجمع المتناقضات في سلة واحدة، ففي حين يدعي ان الصفوية نشرت أفكارها المتعصبة للعنصر الفارسي، ينسى أنه ذكر قبل قليل أن الصفويين ليسوا سوى تركمان، وان عميدهم إسماعيل الصفوي، ولد من أم أرمينية وأب آذري (تركماني)! ونتيجة التناقضات، وعدم القدرة العلمية على التفريق بين مذهبين، تشيع علوي وآخر صفوي، يضطر هذا الكاتب في نهاية المطاف لإلغاء حتى ما ذهب إليه كبار مراجع الشيعة في خصوص رواية الزواج هذا، كالكافي والصدوق والمفيد، الذين توفوا ما بين القرن الثالث والخامس الهجري، وما ذهب إليه حديثاً المحقق السيدعبدالرزاق الموسوي المقرم.
وعندما يصلون إلى نتيجة ملغومة واحدة، وهي أن الشيعة الحاليين كلهم صفويون، والصفويون أعداء لأهل السنة، فهل من فرق بين هذه النتيجة وبين ما حدث في التاريخ من التأليب المذهبي تحت مسمى «الروافض»، الذي تشهد به المؤلفات القديمة من إرث إقصائي مأزوم وظالم، يتباكى مروجو فزعة «المشروع الصفوي» على حدوثها في محاولة التظاهر بالحيادية، في حين يلحون على الفصل بين الشيعة العرب وبين عقائدهم تحت دعوى أنها عقائد التشيع الصفوي من جهة، وبينهم وبين مراجع التقليد في إيران باعتبارهم مراجع الصفوية الجديدة، وكأنهم يطالبون بصك براءة من هؤلاء المراجع ومن جملة من عقائدهم الثابتة.
وبالنسبة للوضع المحلي، فإن الخطورة تكمن عندما تغفل أو تتغافل الأجهزة الرسمية عن التحركات التي تنفخ في هذه النار، فلا تحرك ساكنا، فبالأمس يرفع أحد النواب يديه في صلاة الجمعة ليدعو على «الروافض»، وبعدها الكتيب التكفيري الذي لم يتم حتى التحقيق في شأن انتشاره، وأعقب ذلك كتيبات و«سيديات» نشرت بصورة كبيرة في جامعة البحرين، وحديثاً «سيديات» توزع في مواقف السيارات لجامع الفاتح أثناء انعقاد فعاليات الدورة العلمية الأولى للخطباء والدعاة التي تنظمها وزارة الشئون الإسلامية، وأخيرا وصل الشحن الطائفي إلى الإذاعة الرسمية كما حدث في برنامج «خلنا على بالك»، إذ تحول إلى سباب طائفي بغيض، أما الكتابات اليومية، والملتقيات الإلكترونية التي يتم التغاضي عنها من قبل الأجهزة الرسمية، في الوقت التي تغلق ملتقيات الشأن السياسي، فحدث ولا حرج. وتمر هذه الحوادث ويتراكم الشحن الطائفي من دون تشكيل حتى لجنة تحقيق، مع أنه لا يمكن التعويل على مثل هذه اللجان في بلدنا، فمصير اللجنة حتما كمصير اللجان الكثيرة التي ذابت كزبدة طلعت عليها شمس الصباح.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1344 - الخميس 11 مايو 2006م الموافق 12 ربيع الثاني 1427هـ