لعبت عوامل عدة في تكوين فكر هيغل في مرحلة كان يحاول فيها تركيز نظرته الفلسفية فحصلت حال من التنابذ ب
الأول، بداية تراجع فكر الثورة الفرنسية (الحرية، الاخاء، المساواة) بعد هزيمة المشروع البونابرتي في 1815، إذ شهدت أوروبا آنذاك ردة فعل على الأفكار الإنسانية اعقبتها «نظريات» شوفينية تتحدث عن تفوق الغرب وانتصاره وأن الغرب في طبعته تلك هو نهاية تطور تاريخ البشر.
الثاني، كانت ألمانيا في حال تشرذم وانقسام (ألمانيا لم تكن موحدة) وشكلت بروسيا قاعدة اقليمية كبرى في محيطها أخذت تضغط شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً لتوسيع حدود دولتها (مات هيغل قبل 40 سنة من وحدة ألمانيا التي تحققت على يد بسمارك) وهو أمر جعله ينظر الى الملكية الدستورية كقوة توحيدية.
الثالث، عاصر هيغل فترة نابليون بونابرت وتألق فلسفياً في وقت ارتفع نجم الامبراطور في عالم أوروبا ثم تراجع بصفته صاحب مشروع امبراطوري يريد توحيد القارة بقوة فرنسا وبقيادته. وعاصر حرب فرنسا وبروسيا واحتلال قوات بونابرت اجزاء واسعة من مقاطعات ألمانيا بما فيها الجامعة التي كان يعطي فيها دروسه. وتركت النزعة الامبراطورية في تفكيره ردود فعل متناقضة وأخذ يبحث عن نزعة أخرى أقل كونية (أقل امبراطورية) من الناحية السياسية وابقى على فلسفته نزعتها التاريخية الكونية وتشمل البشر على انواعهم وانماطهم.
ساهمت الحوادث الثلاثة في صوغ المنهج النظري - التاريخي في فلسفة هيغل ولعبت الاضطرابات السياسية - العسكرية دورها في تحديد المخطط التطوري لفكره.
صاغ العامل الأول (تراجع الفكر الإنساني) فكرة الشعب وروحه وتوصل الى انتاج صيغة «الروح القومية» التي تتميز بمبدأ خاص وثابت. وأدى العامل الثاني (ظهور قوة بروسيا) الى بلورة فكرة الدولة بصفتها مملكة الروح والتطور النهائي للتاريخ. وساهم العامل الثالث (احتلال بونابرت لألمانيا) في انتاج فكرة الحرية ووجد فيها هدف التاريخ في تطوره البشري، على رغم أنه انجز الخطوط الأولى لمسألة الحرية في فترة اعجابه بشعارات الثورة الفرنسية.
شكل ضغط الحوادث قاعدة لا واعية في صوغ وعي هيغل وجعله ينمط فلسفته (فلسفة الحق) تاريخياً وفق تراتبية ثلاثية (القومية، الدولة، الحرية) الأمر الذي اسهم في سقوط فلسفته الكونية في نزعة لا إنسانية لم تلحظ مسألة التسامح والعدل في حياة الشعوب وثقافاتها. وأدى بحثه عن الحرية، كنقطة جوهرية في تطور البشر على خلافها من قضايا، الى تراجع فكرة العدالة (العدل) في تفكيره. فظهر قياس الحرية كنموذج عقلاني وحيد في الحكم على التطور والحضارات وهدف وحيد للتاريخ. واصراره على الدولة كنمط سياسي راق في علاقات البشر وتطورهم اسقط من تاريخه نماذج تنظيمية أخرى لا تقل تقدماً عن فكرة الدولة. فظهرت الدولة وكأنها تفصل التطور الى عالم ما قبلها وعالم ما بعدها وأهمل الشعوب التي لم تتقدم مجتمعاتها الى طور الدولة واعتبرها ساقطة من التاريخ ولا تاريخية (أي انها لم تقدم شيئاً ولا تضيف شيئاً الى ما سماه التاريخ الكلي واحياناً التاريخ العالمي). وأدى تفكك النموذج الامبراطوري النابليوني (توفي بونابرت في السجن قبل عشر سنوات من وفاة هيغل) الى بلورة صيغة تطور «روح» القومية الخاص وتجليها في الدولة كشكل عقلاني أرقى لتطور الفكرة بصفتها وعياً للحرية.
العوامل الذاتية
لا تكفي العوامل الموضوعية في تفسير تبلور وعي هيغل وتطور تفكيره. فهناك العوامل الذاتية التي لعبت دورها في صوغ نظرياته التاريخية.
اعتمد هيغل في معرفته التاريخية عن شعوب أميركا وحضاراتها، إفريقيا وثقافاتها، آسيا وامبراطورياتها، عوالم المتوسط وشعوبه، على مصادر المبشرين والرحالة والضباط والغزاة (رجال الاستعمار) ورواياتهم وحكاياتهم عن الصين والهند والعرب وإفريقيا وأميركا. وكانت تنقص تلك «التواريخ» آنذاك الكثير من المعلومات والمعرفة وفيها الكثير من الثغرات التي افتقدت الدقة العلمية والموضوعية. وعلى رغم أن هيغل يشكك احياناً في تلك الروايات المنقولة والمكتوبة والمرتجلة فإنه لا يتردد في نقلها عند الحاجة. بل إنه احياناً يحول اقاويل هؤلاء وحكاياتهم الى قوانين ثابتة في الحكم على الثقافات والحضارات. وظهر الأمر جلياً في احتقاره الشوفيني واللاإنساني عند حديثه اللاتاريخي عن تاريخ إفريقيا (تحت خط الصحراء الكبرى) وثقافاتها وتقاليدها وانماط حياتها.
يرسم المدخل المذكور إطار الصورة العامة لفلسفته في حقل تطبيقها كنموذج عقلي في مجال التاريخ. ومشكلة هيغل في حقل التاريخ تتضاعف لأنه يحاول أن يجعل من قانونه المقياس العام الذي منه وبه يقرأ الفن والموسيقى واللغة والشعر والفلسفة والديانات والثقافات والحضارات والتطور التاريخي وتطور البشر الى آخر نتاجات الإنسانية. ولاشك في هذا النوع من القراءة (التاريخ الكلي) مهما بلغ من الدقة واخذ من الجهد والمتابعة سيسقط في ثغرات كبيرة وستطغى عليه العموميات التي تسوق الحوادث والشعوب بعصا سحرية (قانونه الديالكتيكي). فالمسألة التاريخية بالغة التعقيد والتركيب وهي شديدة التداخل وكثيرة التنوع وفيها حالات هبوط وصعود لا يمكن ضبطها في قناة حديد يسير عليها قطار الفلسفة حاملاً بضاعته من محطة الى محطة وصولاً الى المحطة الاخيرة: بروسيا. فالتاريخ غير الفلسفة... وما يحصل في التاريخ يصعب فلسفته وما يجوز في الفلسفة (النظرية) لا يصح دائماً على الواقع. ومهما بلغت الفلسفة من تطور فإنها لن تنجح في «قوننة» التاريخ وضبطه على ايقاع نظرياتها وافكارها.
لذلك سقط هيغل في التاريخ في وقت سجل اعظم فلسفة في الفكر الأوروبي. وبين فلسفة هيغل وتاريخه تسللت المدارس العنصرية إلى فكره وصاغت منها نظريات مضادة لمبدأ هيغل الأصلي: الحرية.
ثغرات المسألة التاريخية
ما هي أبرز الثغرات في رؤية هيغل للمسألة التاريخية؟
- نظرية تأثير المناخ والطبيعة (تضاريسها وجغرافيتها) على الإنسان. بالغ هيغل في اعطاء المسألة المناخية - الطبيعية دورها الرئيسي في التأثير على عقل الإنسان (روحه) وهو أمر جعله يربط التطور العقلي (الروحي) بشروط التطور المناخي - الطبيعي في بعض حقول دراسته لتاريخ الشعوب. لاشك في أن المسألة المناخية - الطبيعية مهمة، لكن تأثيرها يقتصر على تحديد شروط النمط الاجتماعي للتطور. فهي لا تعطل التطور بل تفرض قنوات أخرى لتطور الإنسان وتحديد شروط استنباط الوسائل العملية واختراعها لتلبية حاجات البيئة الطبيعية - الاجتماعية. فالمناطق الجافة (قليلة المياه) فرضت على الإنسان البحث عن حاجته إلى الماء، الأمر الذي جعله يعطي هذه المسألة أولوية تنظيمية في حياته الاجتماعية (ترع، سدود، خزانات) بينما فرضت المناطق الباردة (كثيرة المياه) أولوية البحث عن الطاقة (الغابات، الفحم، وأخيراً النفط) الأمر الذي يفسر اختلاف التنظيم الاجتماعي - السياسي لكل محيط جغرافي.
- نظرية مركزية شروق الحضارة وغروبها. أدت فكرة المركزية في قانون هيغل التطوري الى وضع سكة حديد لتاريخ البشرية، الأمر الذي شجع على قيام مدارس فلسفية في أوروبا تؤكد مقولة مركزية الكون وتحديداً مركزية أوروبا في قيادة البشر (قاطرة التاريخ) وتعميم نموذجها الخاص ليصبح، ولو عن طريق القوة، النموذج الوحيد لتطور الإنسانية. وقامت بعض المدارس، باعتبار أوروبا هي المركز، والعالم هو مجرد اطراف ملحقة بذاك الثقل (الجاذبية) من حيث ان دول الجنوب تابعة لدول الشمال (مركز الجاذبية). حتى عندما قرأ هيغل خصائص البشر نظر اليها من جهة تفوقية (أعلى وأدنى) وليس من جهة المشترك الإنساني وتنوع الثقافات.
- نظرية تحقيب التاريخ ومرحلته كونياً. ساهمت نزعة التحقيب وتمرحل التطور في صوغ نظريات أوروبية ترفض التعدد والتنوع واختلاف قوانين التقدم. وبالغت تلك النظريات في اختزال البشر وتقنين مسارهم التاريخي ضمن قنوات جاهزة سلفاً (غاية مقررة، أو مخطط نهائي) تسير الشعوب بين ضفافها لتصل الى محطة اخيرة لا غنى عنها ولا فكاك منها. وباتت «النهاية» المفترضة تلك هي مقياس فحص تقدم الشعوب وتخلفها.
- رفض تعددية الشروق والغروب. نسفت هذه المقولة النظرية احتمال نهوض الأمة وتراجعها ثم عودتها مجدداً الى النهوض، وفي الآن نفسه قطعت الطريق امام فكرة أن «الشمس» الحضارية اشرقت في كل مكان وأنها في النهاية ستغرب في كل مكان. والتفاوت في التطور ليس دليلاً على قلة الحضارة (أو عدم أهلية الشعب للتحضر) بل هو فوات تاريخي لابد أن يعقبه تطور لاحق. وإذا اصاب الجمود حضارة سابقة فهذا لا يعني أن «شمس» الحضارة لن تعود اليها مرة أخرى (وإلا كيف نفهم عودة الصين واليابان وشرق آسيا الى النهوض الحضاري مجدداً). كذلك اذا «غربت» الحضارة في أوروبا مرة في التاريخ (الغروب عند هيغل اهم من الشروق) لا يعني الأمر أن تلك الحضارة غير معرضة للتراجع أو السقوط أو التلاقح مع نماذج أو حضارات أخرى.
- مفهوم الطاعة وخضوع الشرق للشخص (الفرد). على رغم تقدير هيغل لدور الإسلام التنويري في آسيا وإفريقيا لم يلتقط الفارق بين نوعين من الطاعة. فقد ركز تفكيره على مسألة الطاعة المادية للفرد (الامبراطور في الصين) ولم يلحظ أن هناك طاعة أخرى تتجاوز المحسوس الى اللا محسوس. فالطاعة المثالية تنقل الخضوع من الشخص في الطبيعة الى ما وراء الطبيعة. وقد أصل الإسلام في عقيدته مفهوم الطاعة (الخضوع) وجعلها مسألة ما فوق بشرية واعتبر أن الإنسان عبدالله وليس عبد الإنسان. وبهذا المفهوم الايماني لفكرة العبودية احدث الإسلام ثورة في علاقات البشر وبات الكل (شعوباً وطبقات) عبيد الله، الأمر الذي اطلق أكبر دورة حضارية اعادت للإنسان حريته المأسورة في الاصنام والاوثان. وباتت حرية الإنسان تكبر بقدر ما تزداد عبوديته لله.
- نظرية تطور التاريخ نحو الحرية. تركيز هيغل الذهني على مسألة الحرية وتشدده العقلاني - التاريخي في البحث عن تطورها ثم استقلالها جعلاه ينظر اليها كمقياس وحيد لقراءة علاقة الإنسان بالطبيعة أو علاقته بالإنسان. وجعل منها دائرة الانطلاق للحكم على البشر وتصنيفهم بين شعوب لم تدخل التاريخ وشعوب دخلت التاريخ ولم تسهم في صنعه وشعوب دخلته وساهمت في صنعه. المقياس المذكور اسقط مقاييس أخرى في منهج هيغل التاريخي إذ في الوقت الذي حصر تفكيره في البحث عن الحرية اسقط من حساباته عناصر أخرى (كالعدل والرحمة والتسامح مثلاً) وهي عناصر إنسانية اذا ضمرت فقدت الحرية معناها الذاتي ودورها الخاص في تحرير الإنسان من عبودية الموجودات.
- الجموح العقلاني عند هيغل، والنظر (الرؤية) الى الواقع كما هو ثم تفسيره كما يظهر (يتجلى) لنا. وهو أمر فرض عليه تنظيم سياق بحثه التاريخي عن الحرية ضمن ضوابط شديدة العقلانية. واوصله تشدده العقلاني الى خطأ مركزة الوعي في مكان واحد. ويفسر هذا الشيء موقفه الفظ من الافارقة والهنود الحمر ومسألة الرقيق والتوسع الاستعماري والاستيلاء على أميركا واحتلال شمال إفريقيا. ودفعه تطرفه العقلي إلى أن يضع مقاييس صارمة في الحكم على البشر وحوادثهم وفق تصور منهجي (نموذجي) لا يقبل التنوع والاختلاف.
عقلانية فظة
افتقدت عقلانية هيغل الى الرحمة والتسامح. فلو توسط الرحمة كقوة إنسانية عاقلة لكانت لطفت تطرفه العقلاني وجعلت قانونه أكثر إنسانية وليونة وقدرة في فهم الآخر وتفهم ظروف الاختلاف وتنوع التطور. فالرحمة تعقلن العقل وتجعل احكامه ومقاييسه اكثر عقلاً وعدلاً وارحب في التعاطي مع الآخر وأخذ ظروف الزمان والمكان قاعدةً نسبيةً مرنةً في قراءة تاريخ البشر. وعندما تتوسط الرحمة كأداة صلة بين العقل والواقع تصبح الاحكام الإنسانية عادلة وأكثر مرونة ويتجه الفكر نحو الاعتدال وتجنب الشطط.
تشير كل الاكتشافات الحديثة الى أن تاريخ البشرية لم يبدأ مركزياً والمعرفة لم تتطور في مكان وتنتقل (تحل) الى آخر، بل كان التاريخ منذ البدء متعدد الحضارات وتوصلت مختلف الشعوب الى ابتكار الادوات نفسها باعتبار ان الاختراعات ليست نتاج الابداع فقط بل هي نتاج الحاجات أيضاً. والضرورة تفرض على الإنسان اختراع الادوات لتلبية حاجاته. أما التفاوت في التطور فقد جاء لاحقاً ولم يحصل مركزياً ومن الشرق الى الغرب بل تذبذب التطور في نموه. فأحياناً كان يتقدم واحياناً يتراجع واحياناً أخرى كان ينكمش على نفسه. ومعظم الحضارات التي اختفت كانت اضمحلت أو اندمجت أو تلاقحت لأن وظيفتها التاريخية انتهت واشبعت نفسها. والحضارات الوحيدة التي نجحت في اختراق محطات التاريخ ونجت من الاضمحلال أو الذوبان هي تلك التي توصلت الى صوغ كتابها (دستورها وقانونها) في نصوص ثابتة تملك تصورات للبشرية والكون وتعترف في الآن نفسه بخصائص المجتمعات واختلاف لغاتها وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها ومزاجها.
لو لم يكن الأمر كذلك لما يشهد العالم الآن تعددية ثقافية جديدة ودورة من العلاقات قد تدفع البشرية الى نوع من الوحدات الحضارية الكبرى التي يطلق عليها اليوم تعبير «أسواق» مثل السوق الأوروبية، السوق الأميركية الشمالية، السوق الآسيوية، السوق العربية (اذا توافرت الارادة) وغيرها. والأسواق المذكورة التي يغلب عليها الآن طابع التنسيق التجاري والإداري والجمركي كتعبير عن المصالح الاقتصادية - السياسية المشتركة، قد تتحول الى عوالم حضارية تعيد انتاج العلاقات البشرية بصيغة أكثر إنسانية وتوازنية. فالتاريخ «اشرق» تعددياً ولابد أن يكون «الغروب» تعددياً.
لاشك في أن هيغل عندما صاغ فرضياته الفلسفية لم يتوقع أن تسقط على تربة قابلة لكل تفسير وتأويل وهو أمر حصل بإرادته أو من دونها. فهذه الفرضيات تحولت عند غيره الى قوالب مدرسية لا تخضع للنقاش وباتت أدوات معرفة (اختبار) تتم تجربتها في حقول البشر كنماذج للتطبيق. فقراءة هيغل العقلانية (التاريخية) للاستعمار تحولت واحدة من ادوات الاستخدام في قهر البشر. فالاستعمار ليس نظرية فلسفية أو فكرة عقلانية فقط بل هو أيضاً وقبل كل شيء أسلوب سيطرة اقتصادية وسياسية وثقافية واستلاب ديني وحضاري. وقراءة هيغل العقلانية لتاريخ الافارقة (خط الاستواء) تحولت الى إطار نظري مجرد يبرر فكرة الاستعلاء الأوروبي واحتقار الآخر. واختزال حضارات الهند والصين والفرس وشعوب أميركا قبل اكتشافها وآسيا القريبة (بلاد الشام) الى نصوص فكرية موجزة اعطى الذرائع الايديولوجية لتبرير الاستعمار وقدم «المادة الخام» لنظريات الاعراق والاجناس وتفوق اعراق على اعراق واجناس على اجناس، وسمح بتوفير التغطية العقلانية لترتيب البشر وفق سلم (درجات) تضع هذا فوق ذاك وذاك تحت هذا.
هذا لا يعني أن هيغل كان عنصرياً لكنه قلل بعقلانيته الفظة من أهمية حضارات البشر وإنسانيتهم. ورأى فيها (الحضارات) مجرد فكرة بسيطة في محطات تاريخية لم تكتمل إلا بأوروبا ولم تتطور إلا عن طريق الجرمان (العالم البروتستانتي) ولن تنتقل الى غيرهم، لأنهم برأيه خط النهاية في السباق التاريخي. فأوروبا هي النهاية وهي فوق الجميع. والفكرة الأخيرة تبدو طازجة في ذهننا الى اليوم.
ينتقل هنداوي من مجال التاريخ والجغرافيا البشرية إلى العقل واكتشاف منطق العلاقات بين الأشياء والحوادث والتقاط أسبابها وعللها كما تجلت في منهجية ابن خلدون، ويرى أنها تكاد لا تختلف «عن عقلانية هيغل، إلا على صعيد الصوغ»، إذ «إن الحقيقة الكبرى، التي تنطلق منها فلسفتا التاريخ الهيغلية والخلدونية، هي فكرة أن العقل يحكم العالم» (ص 56 - 57). باختصار شديد «نستطيع القول إن العقل عندهما، يعني الذات الإلهية على وجه الدقة، بالمضمون الإسلامي عند الواحد، والمسيحي عند الآخر. وإذا كان هذا الرأي شديد الوضوح لدى ابن خلدون، فإنه شديد الوضوح لدى هيغل أيضاً» (ص 58). فالتشابه العقلي بينهما يعود إلى تشابه إيمانهما: الأول يؤمن بالقدر والثاني بالعناية الإلهية. وإذا قارنا «ماهية العلاقة بين الإلهي والإنساني في نظر هيغل، بتصور ابن خلدون لها، فإننا نجد تماثلاً بينهما، يمتد ليشمل معظم المكونات الرئيسية الخاصة بها» (ص62). ولا يتهم المؤلف هيغل بالسرقة ويستمر في الاحتفاظ بمنطقه الحذر بعد أن يؤكد التشابه في ماهية العلاقة بين الإلهي والإنساني في التاريخ عند ابن خلدون «وهو مفهوم لا يكاد يختلف، في الواقع، عن ذلك الذي يتبناه هيغل. لكننا لا نذهب إلى حد القول إن الأول هو مصدر الثاني، بالضرورة» (ص67). فهيغل تأثر بفكرة الموت عند الشرقيين واطلع على الجدل ونقاش المتصوفة المسلمين بشأن وحدة الوجود وذكر القرآن الكريم مراراً في كتاباته وربما يكون منبع التشابه بينه وبين ابن خلدون إلى تشابه مصادرهما وخصوصاً القرآن الكريم وفكرة «المكر» التي تتردد في الكثير من الآيات المنزلة. ويرى هنداوي «أن هناك مفهوماً آخر ذا أهمية استثنائية كبرى، في المنهج الجدلي الهيغلي، فيما يتعلق بتفسير الصيرورة التاريخية خاصة، يوحي بأصول قرآنية له هو أيضاً. ونقصد به مفهوم (مكر العقل) (ص 68 - 69). لأن فلسفة التاريخ الهيغلية تؤكد فكرة أن الروح تستعمل البشر من دون علمهم «في تنفيذ خطتها الكونية» (ص69). فهيغل كابن خلدون يستوحي من الآيات القرآنية نفسها فكرة أن الإرادة الإلهية «بالتغيير أو التدمير، هي القوة الكونية الواعية، التي تخلق سبب التغيير وفعله موضوعياً» (ص70). ويستنتج هنداوي من مقارباته أن هيغل إذا لم يأخذ أفكاره بشأن العقل والإرادة الإلهية عن ابن خلدون مباشرة فإنه على الأقل أخذها من مصادر ثلاثة متشابهة، هي: الفلسفة الإغريقية - اليونانية، الكتابات الإسلامية المترجمة إلى اللغات الأوروبية، والقرآن الكريم.
بعد العقل ينتقل المؤلف إلى نظرية الدولة عندهما وهما أكثر من اشتغل عليها وفلسفها. وعلى رغم أن فكرة الدولة عند ابن خلدون سياسية - اجتماعية وتقتصر على الدولة الإسلامية بينما هي فلسفية وكونية عند هيغل فإن المقاربة بينهما «سرعان ما تكشف عن وجود علاقات عميقة بين جوانب رئيسية، في منظوري الدولة عندهما» (ص75). فابن خلدون يؤكد ضرورة الدولة وأهميتها الحضارية وكغاية بذاتها و«هذا مفهوم نجده عند ابن خلدون، كما عند هيغل، على حد سواء» (ص76). وكما مرت البشرية عند ابن خلدون بفترة من دون دولة كذلك بالنسبة إلى هيغل «عاشت لفترات طويلة من دون نظام الدولة» (ص78).
إلى ضرورة الدولة هناك عوامل قيامها. فعند ابن خلدون تساهم ثلاثة عناصر مركزية في نشوء الدولة، هي: «المشيئة الإلهية، العصبية والإرث الحضاري للدول والشعوب السابقة» (ص80) ونجد العناصر نفسها «في إمكان ظهور الدولة، عند هيغل» (ص82). ويستخدم هيغل لغة خلدونية عند حديثه عن طبيعة القبيلة البدوية العربية وهجمات البدو والغزوات وبداية تأسيس الدولة. وهناك تشابه بين التنظيم العائلي عند هيغل مع التنظيم البدوي عند ابن خلدون وتقابل البنية البطريركية وأحياناً الروح الإنسانية للشعوب عند هيغل هي فكرة العصبية عند صاحب المقدمة. فالأمة وصفاتها عند هيغل هي القبيلة وصفاتها عند ابن خلدون. كذلك تتشابه غاية الدولة عند هيغل وصلتها بالدين بغاية الدولة عند ابن خلدون وصلتها بالدين.
وعلى رغم التشابه هناك بعض التباينات بين الرجلين بسبب اختلاف ظروفهما وبيئاتهما وتغير زمانهما وهو أن غاية الدولة عند ابن خلدون «حماية الحق، بالعدل» بينما هي عند هيغل «تحقيق الحرية» (ص87). واختلاف الغاية بينهما يعود كما يقول المؤلف إلى التطور الذي حققه الفكر الغربي «على صعيد صوغ النظريات السياسية» في الفترة الزمنية التي تفصلهما. (ص89).
ويتشابه هيغل مع ابن خلدون في تصور صيرورة الدولة، إذ إن العوامل التي تؤسسها هي نفسها التي تسقطها، فالعصبية عند صاحب المقدمة تنتج نقيضها، بينما الروح الإلهية عند هيغل تتجلى في أجزاء جديدة.
وإذا كانت هناك خلافات بينهما على صعيد تصور غاية الدولة فإنهما يتشابهان إلى درجة التماثل في قراءة تطورها وأطوارها. «هناك تماثل مدهش بين منظورهما، لاسيما من جهة تسلسل الأطوار الطبيعية لحياة الدول» ولا يقتصر هذا التماثل «على الطابع الخارجي لأطوار الطبيعية للدولة، إنما يمتد ليشمل المضمون العام لكل من لحظات السيرورة تلك» (ص97). فابن خلدون يمرحل تطور الدولة على ثلاثة أجيال: البداوة، التحضر، والتفكك، ثم ينظم أطوار الدولة على خمسة: الاستيلاء، الاستبداد، الدعة (الترف)، المسالمة (التبذير)، وأخيراً التفكك. وتأخذ هذه الأفكار عند هيغل «صياغة تكاد تكون خلدونية تماماً» (ص98). فأطوار الدولة عنده تقتصر على أربعة: الولادة، الشباب الرجولة، الكهولة، وموت الدولة. ويرى هنداوي «أن التوالي في الأطوار الطبيعية للدولة، عند هيغل، هو عينه تقريباً عند ابن خلدون» (ص99)، من دون إنكار وجود اختلافات في التصور العام، إذ الدولة عند هيغل كونية بينما هي محلية عند ابن خلدون. وبسبب اختلاف المنظور بين الكونية والمحلية انتهى هيغل إلى تأكيد فكرة استمرار التطور وربط الحضارات ببعضها في سياق تطوري ينتهي في دولة الحرية. بينما انتهى ابن خلدون إلى تأكيد فكرة التاريخ الدائري (التطور الدوري) وانتقال التحضر من عصبية إلى أخرى.
وقبل أن ينتقل هنداوي إلى فصله الأخير والمثير بشأن سؤاله «هل اطلع هيغل على المقدمة؟» يرد على المقولات التي تتهم ابن خلدون وهيغل «بالتفوقية العنصرية» وينفي عنهما أية شبهة في ذاك الحقل ويرى أن ما يسمى بعنصريتهما يعود إلى نظريتيهما وواقعيتيهما وحسيتيهما. لكنه يلاحظ أن ابن خلدون أكثر موضوعية من هيغل لأن الأول انتقد قومه وأهله، وهو المسلم الذي يفتخر بأصله العربي، مثلما انتقد الأفارقة والبربر والترك بينما اقتصر انتقاد الثاني على الأفارقة والعالم الشرقي واستثنى أوروبا والشعوب الأوروبية، الأمر الذي جعله متعسفاً في قراءة تاريخ شعوب العالم الأخرى، وانتهى إلى تمجيد «الدولة القومية البروسية» وتأييد الاستعمار الغربي لبلدان المغرب وإفريقيا (ص105 - 107).
وأخيراً وبعد أن ينتهي هنداوي من مطالعته الفكرية التي اعتمدت تقنيات المقاربة والمقارنة يختتم بحثه في محاولة منه للإجابة عن سؤاله بشأن تأثيرات مقدمة ابن خلدون على فلسفة التاريخ عند هيغل.
حتى في هذا الفصل لا يجزم المؤلف في استنتاجاته ويفضل إثارة الشبهات على إطلاق الاتهامات. فهو يرى أن التشابه ليس مصادفة، فهيغل تأثر بالفلاسفة المسلمين واطلع على ترجمات من كتابات للكندي وابن سينا. ويرجح سبب التقارب الشديد إلى عوامل مختلفة منها قراءة مباشرة لأجزاء مترجمة من المقدمة أو اطلع على قراءات عنه في مجلات ألمانية وفرنسية أو أنه اقتبس من اقتباسات ميكافيلي ومونتسكيو وفيكو عن ابن خلدون. صحيح أن المقدمة تمت ترجمتها كاملة من قبل الفرنسي دوسلان في العام 1862، أي بعد 30 سنة من وفاة الفيلسوف الألماني في العام 1831، إلا أن هناك أجزاءً كثيرة منها كانت معروفة ومتداولة في أوروبا، كذلك كتبت ونشرت العشرات من الدراسات عن منهجها الفكري - التاريخي، بل إن موسوعة الفرنسي ديربلو المعروفة باسم «المكتبة الشرقية» ذكرت ابن خلدون بالتفصيل في العام 1697 وكانت متداولة بين المثقفين الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويذكر هنداوي أن «المجلة الآسيوية» نشرت وحدها خلال الفترة بين 1822 و1830 أكثر من عشر دراسات عن فكر ابن خلدون. ونشرت في أحد أعدادها للعام 1823 إعلاناً بأن ترجمة «المقدمة» الكاملة على وشك الصدور. كذلك كان هيغل على علاقة شخصية مع عدد من المشرفين على تلك المجلة من بينهم فكتور كوزان (ص110 - 112).
ينقل هنداوي مقطعاً طويلاً من مقال دوسلان الذي قدم به ترجمته للمقدمة وأشار فيه إلى البحوث والترجمات التي صدرت عن ابن خلدون بين 1806 و1826. كذلك يشير إلى دراسة فريدريك شولتز (أستاذ الفلسفة الألماني المعاصر لهيغل) التي نشرت في 1825. ويرى هنداوي أنه من الصعب تصور أن هيغل لم يطلع على كل هذه الكتابات أو أنه لم يسبق له أن سمع بمفكر معروف في أوروبا كابن خلدون، وخصوصاً أنه يستشهد بمراجع مثل مجلة «كنوز الشرق» الألمانية و«المجلة الآسيوية» الفرنسية اللتين اهتمتا أكثر من غيرهما بابن خلدون. ويؤكد هنداوي أن هيغل لابد أن يكون قد اطلع مباشرة «على عدد من النصوص الخلدونية المترجمة أو على عرض للأفكار الخلدونية العامة عن علم التاريخ» (ص113)، وأن هناك «من الأدلة ما يكفي للاستنتاج أن مؤلفات فكرية كثيرة، تحمل تأثيرات ابن خلدون، كانت قد وصلت هيغل» (ص115) مثل كتابات ميكافيلي ومونتسكيو وقسطنطين فولني واولسنر وفيكو.
يبقى السؤال المحير إذا كانت الأدلة تشير إلى اطلاع أو تعرف هيغل على فكر ابن خلدون ومنهجه، فلماذا لم يذكره في مؤلفاته كمرجع من مراجعه كما ذكر غيره؟ يربط هنداوي المسألة بمنهجية هيغل عن العقل وتطور التاريخ إذ لم يشأ أن يعترف للعقل العربي الإسلامي «كعقل شرقي» بإمكان أي إبداع وخصوصاً في ميداني الفلسفة والتاريخ، لذلك «لم يكن في إمكانه أن يذكر ابن خلدون، حتى إذا كان قد اطلع، فعلاً، على نصوصه أو عرف أفكاره، بشكل مباشر أو غير مباشر» (ص117). لذلك، يرجح أن يكون هيغل قد استلهم المقدمة ولم «يلطشها» فهما «نتاجان أمينان لثقافتين مختلفتين بشكل كبير» (ص 118). فهيغل صاغ فلسفته في عصر نابليون بونابرت في وقت كانت أوروبا تحقق قفزتها الكبرى في النهضة الحديثة، بينما صاغ ابن خلدون منهجه في عصر التراجع عندما كانت الحواضر الإسلامية في الغرب والشرق تتعرض لضربات سياسية وعسكرية. لذلك، جاءت فلسفة هيغل «مشبعة بالأمل والاندفاع والانفتاح نحو العالمية والشمولية»، بينما جاءت منهجية ابن خلدون محبطة من الداخل و«مهددة مهزومة من الخارج» (ص119 - 120)
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1344 - الخميس 11 مايو 2006م الموافق 12 ربيع الثاني 1427هـ