لم تعرف في علاقات الدول في العصر الحديث، حتى الكبيرة والمترعة بالثقة بالنفس، أنها أصدرت مذكرة «ضبط وإحضار» لمعارضين سياسيين في دولة أخرى، قاموا بمخالفة رأيها السياسي، أو حتى التحريض ضدها. لم يحدث هذا مثلا بين دولة مثل بريطانيا وايرلندا إبان مناصرة الايرلنديين الشماليين للحركة الانفصالية في الشمال الايرلندي، وقد طال الصراع وتشعب، حتى وصل إلى قلب العاصمة (لندن). ولم يحدث هذا بين الكوريتين الشمالية والجنوبية حتى في عز الخلاف الايديولوجي بينهما، وتدخل الدول الكبرى في الملف الحرج، حتى الوقوف أمام باب التهديد باستخدام القنابل النووية. كما لم يحدث هذا بين تايوان الصغيرة التي تربض تحت أقدام التنين الصيني، وحتى التنين نفسه لم يجرؤ على فعل ذلك، على رغم مرارة الخلاف السياسي مع القابضين على السلطة في الجزيرة التايوانية، ووصول الأمر إلى تهديد متبادل. تلك بعض الأمثلة، وهناك غيرها الكثير.
لا أحد يعرف مبلغ درجة الذكاء التي يتحلى بها من اقترح أن تقوم السلطات السورية بإصدار مذكرة للقبض والإحضار تجاه ثلاثة رجال سياسة، وصحافي من لبنان، على رغم ما يمثلونه من ثقل شعبي وسياسي ودولي، حتى يمثلوا أمام السلطات المختصة كي يدافعوا عن أنفسهم تجاه التهم المنسوبة إليهم، خصوصاً أن ثلاثة منهم يتمتعون بحصانة برلمانية، وآخر صحافي مهمته التقصي والبحث عن الحقائق.
من اقترح المذكرة لتقديم الأربعة للمحاكمة، بالتأكيد ليست له علاقة بالعصر، ولا يعرف كيف يخدم وطنه وهو في شبه ورطة، حقا أو باطلا. بل لعله أراد من حيث يدري أو لا يدري إشاعة جو إقليمي ودولي مناهض لبلده، وإثارة رأي عام دولي بعضه يريد أن يقتنص الفرص للتشهير، إلا أنه بالتأكيد ضليع في استراتيجية «البعثرة»، وهي صرف الجهود والطاقات على ما لا طائل منه، ويعود بالسلب على من أطلقه.
ملف العلاقات اللبنانية السورية ليس ببسيط ولا هو بالهين، فهو متشعب وكثير التفاصيل. وقد عجزت الوساطة العربية عن الوصول إلى حلول مقبولة للنظر فيه بعيدا عن التصعيد، وربما تصل عدم القدرة على حلحلته حتى إلى الدول الكبرى المهتمة بالأمر في منطقتنا. إلا أن فتح ملف «الضبط والإحضار» يضيف إلى ذلك الملف الشائك ملحقا شبه هزلي، قراءته الحقيقية أن البعض لا يعرف بالضبط ماذا يريد أو كيف يمكن أن يحقق ما يريد؟
إذا كان المراد هو «تخويف» الرجال الأربعة أو ردع آخرين من الإدلاء بمثل قولهم في شأن العلاقات السورية اللبنانية، فهو بالتأكيد قصد أن يثير العكس. فالتخويف هذا يعود من جديد إلى مطلقه، إذ إن «الضبط والإحضار» يثير آخرين، قد يكونون على الحياد، كما يشير إلى تناقص القدرات الاقناعية والعقلانية المتوافرة للدولة السورية في لبنان ما يقلص من محاربيها، أما إذا أريد به أن يعرف البعض إن حصل مكروه لهؤلاء - لا سمح الله - فإن اليد السورية بعيدة عن الفعل، بدليل لجوئها إلى التقاضي، فهو أيضا عذر يقود إلى استخفاف بالعقول، فلو حدث ذلك المكروه، فان مذكرة الضبط والإحضار ستكون قرينة قوية على الفعل لا على البراءة منه!
العلاقات الدولية لا تسمح، في الظروف حتى غير العادية، أن تقوم دولة باستدعاء مواطني دولة أخرى للمثول أمام سلطاتها القضائية «العسكرية» وحتى أكثر المتحمسين أو المتعاطفين في لبنان مع العلاقة السورية، لا يستطيعون الدفاع عن مثل هذا التوجه المحرج لهم قبل غيرهم.
وفي الوقت الذي تصدر فيه التصريحات الدولية، وربما القرارات عالية المستوى من منظمات لها ثقلها في عالمنا الذي نعيش فيه، تحذر وتشجب، يوميا تقريباً، التدخل السوري في لبنان، تصدر مثل هذه المذكرة، التي يمكن وصفها عمياء من دون تردد كبير، لتزيد الطين بلة، وتؤكد ما هو واجب النفي لا التأكيد.
مصدر هذه المذكرة تراه لا يعرف أن قدرته على تنفيذها قليلة بل معدومة، وأن التصريحات السياسية لا تصل إلى حد الادعاء الجرمي، وإلا أصبحت مذكرات الجلب والإحضار تملأ أضابير السلطات العامة في دول كثيرة من العالم.
ترى، يتساءل المراقب، ما الفائدة من مثل هذا التصرف؟
بالتأكيد هو ليس في هدف تمكين السلطات من القبض على الرجال الأربعة ومحاكمتهم فهو أمر غير متحقق على الأرض، ولا يمكن أن يتحقق في الواقع، وبالتأكيد هو ليس ردع الأربعة عن النقد وقول ما يشتهون أن يقولوه علنا وعلى رؤوس الأشهاد! وأيضاً ليس ردعا لآخرين من السير في طريق النقد وربما التجريح السياسي العلني، إذ يرى البعض أن مثل هذه المذكرات «الاحضارية ،التوقيعية»، هي بمثابة شهادة «وطنية» يسعى إليها!
هناك رداءة سياسية في تناول الملف السوري اللبناني، وهي خليط من القرارات السريعة يتأثر بالعاطفة وبالأقوال المرسلة، وتصطحبه شراهة لبعض السياسيين للتكسب السياسي، تضيع بعده القضايا الجوهرية ويسهل الاصطياد فيه بعد تعكير الماء.
ويبدو أن الملف في الجانبين يقرأ قراءة عاطفية لها علاقة بالتمني أكثر مما لها علاقة بواقع الحال. ولها علاقة بإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، أكثر مما لها علاقة بتصور ايجابي مستقبلي خلاق.
في الجانب اللبناني تسعى غالبية اللبنانيين إلى استقلال دولتهم وبناء دولة حديثة، من دون الخروج عن الخط العربي في حسن الجوار، أو التعاضد في الموضوع الفلسطيني. وفي دمشق يرى العقلاء أن الوقت قد تجاوز مرحلة «الإملاء والفرض» وجاء وقت التوافق على رغم من كل «التضحيات» التي قامت بها (سورية الدولة) لوصول لبنان إلى ما وصل إليه، فحتى الأبناء يشبون عن الطوق ويطمحون في حياة مستقلة، وكذلك هي الأوطان. ربما من الأفضل أن يتذكر الجميع القاعدة شبه الدائمة في العلاقة بين البلدين، وهي أن أي اضطراب غير مقنن في لبنان سيؤثر على الشام، حدث هذا في الفتنة الكبرى العام 1860، وأوشك أن يحدث في سبعينات القرن الماضي، وقد يتكرر ذلك بأشكال أخرى!
إلا أن العاطفة الجياشة من كلا الطرفين لا تترك للعقل فسحة للنظر إلى الواقع وتعميد استراتيجية طويلة المدى تحفظ للإطراف حقها، وكل ما مر يوم تراجع العقل لتتصدر العاطفة، من دون حساب حقيقي للربح والخسارة على المدى المتوسط والطويل، وكلما قفل ملف فتح ملف آخر غيره ينكأ الجرح.
ربما لم يأت الوقت لمطالبة الطرفين بحوار عقلاني مباشر يعطي لله ما له، ويعطي للإمبراطور ما يستحق، وربما قد فات أوان التدخل العربي الايجابي، ويبدو أن الفاعل الحقيقي اليوم هو الطرف العالمي المقبول من جهة والمرفوض من جهة أخرى. فالباب موصد في الحال الراهنة، ولكنه يقفل بالضبة والمفتاح إذا تنطح عبقري بإصدار شاكلة المذكرات في «التوقيف والإحضار» وكأنه خارج هذا العالم المتغير بشدة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ