من يراقب الساحة الإيرانية منذ أغسطس/ آب الماضي ولغاية الآن يدرك أن اللاعب الوحيد الذي بدأ يشكل ملامح إيران في هذه المرحلة، هو اليمين المحافظ بتلاوينه المختلفة الكلاسيكية (روحانيت) والبازارية (المؤتلفة الإسلامية) والتعميرية (رواد إعمار إيران) وفي ذلك بيان واضح لضمور دراماتيكي حاد لقوى الثاني من خرداد التي أمسكت بملفات الداخل والخارج طيلة سبع سنوات خلت. هذا السؤال طرحته على أحد اللاعبين الرئيسيين إبان حكم الإصلاحيين: أين أنتم الآن؟ فقال: نحن موجودون، غاية ما في الأمر أننا فضلنا إعطاء الرئيس أحمدي نجاد فرصة حتى يحترق بوعوده التي جاء بها، وهي بالتأكيد فترة لن تزيد عن السنة والنصف، لأننا ندرك جيداً أن الزيارات الكرنفالية التي قام بها الرئيس للمحافظات الإيرانية منذ مجيئه وإلى الآن التي أعطى خلالها وعوداً سخية لقاطني تلك المحافظات ستكون حتماً وبالاً عليه لأن الناس في كل محافظة عندما يسمعون عن رغبة الحكومة في بناء مصانع أو مساكن لهم لن يتذكروا إلا تلك الوعود التي ستتحول أتوماتيكياً إلى مطلبهم الأول والرئيسي. قلت له: طيب، أنتم أيضاً أعطيتهم وعوداً ودغدغتم مشاعر الناس، وبالذات الشباب، بخيال أفلاطوني عارم كان وباله خسارتكم في انتخابات المجالس المحلية في 2003 والنيابية في 2004 والرئاسية في 2005، فلِمّ تعيبون على أحمدي نجاد ذلك، أجاب: إننا أعطينا المواطن الإيراني وعوداً سياسية بينما نجاد يعطيهم وعوداً اقتصادية. قلت: حسناً هذا الادعاء ليس كلّه صحيحا، على الأقل بالنسبة لي كمتابع للداخل الإيراني، لكن هذا الموضوع يعيدني إلى الواقع التنفيذي للتعميريين الآن، ويمكنني مناقشته بإسهاب قبل أن أضع نقطة على السطر... أحمدي نجاد وفي سبيل إيجاد ماكنة إنتاج عملية تساوق ما وعد به الإيرانيين قام بعدة إجراءات رئاسية في غضون أقل من 10 أشهر، أولها إلغاء جميع العقود الصناعية التي وقعها الرئيس محمد خاتمي في نهاية عهده والمتعلقة بإنشاء مصانع في المدن الكبرى، وأحال موازنتها الضخمة إلى خطط قصيرة الأمد تحمل صفة الاستعجال لصرفها على مشروعات اجتماعية ومعيشية للطبقات المسحوقة في القرى والأرياف والمجاميع الملاصقة لنواة المال، التي تضررت بعد قيام أفراد تلك المناطق بالاستيطان حول مراكز الثروة بالمدن الكبرى ومن ثم تركز النفوذ والقوة في أماكن محددة، وهو ما يعني إعادة توزيع للثروة، وبسطها أكثر والتمهيد لتوفير فرص نوعية لسكان المناطق العشوائية المهمشة الذين يقومون بأعمال خدمية مؤقتة ولا يحصلون على دخل مرتفع مقارنة بسكان المدن الأخرى، الوتر المهم الذي استطاع أحمدي نجاد أن يلعب به ويجيّره لصالحه هو استثماره لجانب التهميش الذي تعاني أطراف المدن الكبيرة القادرة على استيعاب أعداد هائلة من المهاجرين والتي بها نمو سكاني مرتفع وهي المناطق التي لم تحظ باهتمام جيد من حكومتي الإصلاح الأولى والثانية.
كان نجاد يقول جهاراً «إنني أريد أن أعطيكم ما هو موجود أكثر ما كان عليه الحال في السابق، وأن أقلّل نصيب الأثرياء». تلك الإجراءات هي في حقيقة الأمر انقلاب غير أبيض على الخريطة التقليدية لإيران منذ مجيء حكومة الإعمار التي تشكالت بعد وفاة الإمام الخميني (قدس) مباشرة، وهي إجراءات ضاعفت من شعبية أحمدي نجاد بين المناطق الفقيرة (المتدينة) التي صوّتت لصالح رفسنجاني بتشجيع من علماء الدين مثل كارزين في محافظة فارس وصحنه في كرمنشاه وزين دشت في فارس وإيوان في عيلام، بل إنها تماثلت مع شعبيته في فلاورجان بإصفهان وعجب شير في آذربيجان الشرقية وبافق في يزد وسياهكل في جيلان، وهي المناطق ذاتها التي حاز فيها نجاد نسبة أعلى من منافسه خلال الانتخابات، ومن أشكلوا على الرئيس التعميري من أن مثل هذا الخطاب المتركز بشأن تجريم الحقبة الماضية وما آلت إليه من توزيع غير عادل للثروة وتفشي الفساد يثير الصراعات الاجتماعية الداخلية، يمكن أن يشكل عليهم هم أيضاً بأنهم وطيلة 5 سنوات عملوا على إثارة مسائل أكثر حساسية، تتعلق بأمور دستورية واتهام جهات محددة في النظام السياسي بالاستحواذ على النفوذ والسلطة، وتجريم غرمائهم من الأحزاب بأنهم من يعيق عمل السلطة التنفيذية!
أمر آخر يجب الالتفات إليه فيما يتعلق بآليات ترجمة الوعود الاقتصادية لنجاد وهل أنها فعلاً ستتحول إلى مادة ستذهب بريحه أم لا، وهي أن الحكومة الحالية لم تعد تعتمد على الأعمال والمشروعات التي يطرحها النظام الإداري البيروقراطي الذي كانت تستند عليه حكومة خاتمي في خططها الاقتصادية إلى ما قبل العام 2001، بل بدأت في التشظي الأفقي بالتحالف مع البازار المتحالف تقليدياً مع الجمعيات المؤتلفة الإسلامية وهي النواة الفعلية لليمين المحافظ، ثم الاتجاه نحو منع الشركات والمؤسسات الهرمية اللامتناهية، وترتيب بورصة طهران وتشييد بورصة نفطية في مدينة كيش، والنظر في الخطط الزراعية.
وفي موضوع البطالة التي تعتبر التحدي الأكبر لما تتطلبه من توفير مليون فرصة عمل سنوياً، فإن نجاد سيعتمد خلال فترة رئاسته الأولى في ذلك على الـ 3 ملايين فرصة عمل التي ستتوافر من خلال إعادة هيكلة البورصة الإيرانية، بالإضافة إلى التعاون الذي أبدته قيادتا الجيش والحرس مع الرئاسة من خلال ضم أعداد كبيرة من الشباب الإيراني في الأجهزة العسكرية المختلفة. ومن الحظوظ الإيجابية التي لازمت حكومة نجاد منذ مجيئها وإلى الآن هي الارتفاع الكبير لأسعار النفط الذي وصل قبل أسبوع إلى 75 دولاراً وبما أن إيران تعتمد على أكثر من 70 في المئة من دخلها القومي على النفط، فإن ذلك يعني أن وفرة من السيولة والعملة الصعبة ستتحصلها الحكومة الحالية في الفترة المقبلة، مع الإشارة إلى اعتماد أوروبا في الفترة الأخيرة على الغاز الإيراني في أعقاب أزمة الغاز الأوكراني - الروسي.
مع تركيب صورة المشهد الاقتصادي والخطط الموضوعة لحكومة أحمدي نجاد يتبين بأنها تسير بديناميكية نحو إنزال البرامج النجادية إلى واقع التطبيق، وبالتالي علينا أن ننتظر إلى ما بعد فبراير/ شباط المقبل لنتحقق من مدى صحة فرضية صديقنا القادم من رحم الثاني من خرداد بشأن تحول وعود أحمدي نجاد إلى مادة حارقة، وربما اعود لمناقشة عدد من القضايا التي أثارها ذلك الصديق بشأن ملفات إيرانية مختلفة في المستقبل
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1340 - الأحد 07 مايو 2006م الموافق 08 ربيع الثاني 1427هـ