المتابع للمشهد السياسي يرى واقعاً مشوشاً حوادثه تشوبها الريبة والحذر، ولا ندري إلى متى يستمر هذا التعتيم والتشويش، تعبر عن أعراض مرض نفسي عضال أعراضه الظاهرة التوجس والخوف والقلق البادي من بعض الأطراف، وسببه الرئيس الحقد الدفين المرضي. كل تلك الأعراض من أجل إحداث ربكة في صفوف المعارضة التي تنظر إليها السلطة على أنها ند لا صديق، جهودهم الوطنية تصب في مصلحة الوطن.
هكذا يبدو المشهد السياسي من الوهلة الأولى والتشخيص الأولي للحال السياسية في البحرين في الفترة الحالية، وربما تستمر للفترة المقبلة إذا لم يعالج المرض ويتحقق الشفاء تقودنا إلى الوصول إلى نتائج غير معلومة. واقع المرض آت من مواطن الاستشعار الذي توظفه الحكومة لقراءة الإشارات التي يرسلها المقاطعون لانتخابات ،2002 من القوى السياسية، والذي جاءت ردة فعلهم عنيفة أبان مقاطعتهم للانتخابات السابقة، والتي أثرت حينها على نسبة المشاركة وساهمت أيضا في تمرير ما تريد تمريره الحكومة «من دون قيد أو شرط»، وفوتت الكثير من فرص إدارة بعض الملفات العالقة. وهذا ما لا يمكن نكرانه بأي حال من الأحوال، فالسلطة بتعنتها خسرت مشاركة المقاطعين في الانتخابات السابقة وبالتالي أثر ذلك على رونق وبهاء المشروع الإصلاحي الذي جاء به الملك، والمقاطعون حتماً خسروا شرف المشاركة في الانتخابات الأولى، وبالتالي جمدوا أنفسهم قرابة الأربع سنوات، ولاسيما أن الحكومة حاصرت نشاطاتهم بشكل غير معهود، فلم يتمكنوا من تنفيذ وعود المقاطعة، ما أحدث ربكة بين المشاركين والمقاطعين. وزاد الطين بلة عندما جاءت تركيبة المجلس التشريعي ضعيفة لا يمكن التعويل عليها، ما ألقى بظلالها على موقف الشارع من المقاطعين، الذين فتحوا المجال واسعاً أمام هذه الثلة وفوتوا على أنفسهم فرصة الوقوف أمام ما يراد تمريره. وزاد هذا الاحساس عندما مرر قانون الجمعيات السياسية، هذه الأجواء تجعل من مرض السلطة أمراً وارداً، فكيف لها أن تنفذ ما تخطط له إذا ما شاركت فئة كبيرة تستطيع أن تقف في وجه خطط ومشروعات الحكومة الخاصة، أو السكوت عن حقوق المواطن البسيط الذي يعاني الويلات. والدليل على صحة هذا التصور هرولة الحكومة وجرها لقطار القوانين المعطلة والمقلقة هذه الأيام وقبل فوات الأوان؛ لمحاولة تقليم ما يمكن تقليمه من أظافر المعارضة، في خطوة استباقية واضحة وكاشفة، لعرقلة وإرباك عملهم، وهو أمر متوقع حال رتبت أوراقها وقررت المشاركة.
إلى جانب محاولة ثنيهم أصلا عن المشاركة، هناك من لا يرغب في المشاركة السياسية إذا ما استشعر عدم قدرة المشروع الإصلاحي على تصحيح الأوضاع لأن ذلك ربما يحرجه مع الشارع الذي يريد أن يرى إنجازات على أرض الواقع، وليس شعارات براقة ترفع «لا تسمن ولا تغني عن جوع»، ولاسيما أن السلطة هي المستفيد الأول والأخير من هذه اللعبة السياسية، ولا تريد من يشاغبها ويعاكسها ويقلق منامها في الظروف العادية، فما بالكم السيطرة على عدد من مقاعد المجلس التشريعي، المشرع الحقيقي للقوانين و«الفلتر» الذي من خلاله ينقي القوانين المارة عليه من شوائب.
ودعونا في جولة سريعة في القوانين والمراسيم التي تحاول أن تمررها في خطوات سريعة وجريئة، فمن قانون مباشرة الحقوق السياسية الذي فصل وللأسف الشديد بمقاسات معينة ومحددة لأغراض وأهداف واضحة، توقيتها جاء بالضبط بعد أن تسربت أخبار أو طفحت على السطح مؤشرات المشاركة، ويرمي إلى منع بعض الناشطين من ممارسة حقهم السياسي في الوقت الذي يشفع له عمله أن يكون نائبا يدافع عن المواطنين بكل اقتدار.
وقبلها كانت التكهنات التي تضرب يمنة ويسرى عن دمج الدوائر الانتخابية... إلى تأجيل موعد الانتخابات البلدية والنيابية، إلى ضم الانتخابات في يوم واحد، وأخيراً وليس بآخر فالأيام المقبلة كفيلة بمدها بحزم من الرغبات والقوانين والمراسيم، مساواة دوائر البلدي بالنيابي على رغم أنه من المفترض أن يكون العكس هو الصحيح، بزيادة المقاعد في النيابي وليس تقليص عدد النواب في البلدي، بعد أن عانت المنطقة من غياب طويل إليه وتعطل المشروعات الخدماتية. كل تلك التحركات بمثابة بالونات اختبار، لجس نبض الشارع المقاطع أولا، وبهدف إبعاده عن المشاركة، قبل التفكير أصلا في الموضوع، وجميعنا يعرف أن الحديث عن المشاركة حديث ذو شجون، وتلمسنا ذلك بشكل مبكر فترة التحول إلى قانون الجمعيات السياسية فالبعض قرأ الموضوع من زاوية معينة استشعر من خلالها بأن المسجل في القانون يرغب في المشاركة، وساهم ذلك في اختلاف وجهات النظر، ومن ثم «تفريق الأحبة» على حد تعبير الأمين العام للوفاق.
ولنفكر في التصريحات التي نسمعها ونقرأها هنا وهناك بأن مشاركة المقاطعين ستثري التجربة السياسية، نعم، الجميع يعلم ذلك، ويبصم بالعشر على صحة الفرض، ولكن لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن مرد ذلك وجود ارتياح وقبول من جميع الأطراف لهذا التحرك، فهناك من لايزال يعيش إلى الآن نشوة لذة التسعينات ويتمنى أن تكون الأوضاع السياسية كل يوم في تأزم مستمر، ويحلم في العودة إلى قبضة أمن الدولة. نعم، لايزال هناك من يطبل ويزمر للسلطة، ويتمنى لو أن عقارب الساعة تعود إلى الوراء ليجني ما يجني من الغنائم ويكون المستفيد الأول والأخير، وعلى المقاطعين الذين يمثلون الثقل الحقيقي للمعادلة السياسية أن يظلوا مقاطعين إلى الأبد وأن يحرموا أنفسهم من الاستحقاقات، بل ويستمروا في جلد ذواتهم والبكاء على اللبن المسكوب. وعلينا حينها الحذر كل الحذر من تنفس ما يطلق لنا من هواء ملوث بغاز الكره والحقد السياسي الذي يستشري أكل عندها الأخضر واليابس
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1340 - الأحد 07 مايو 2006م الموافق 08 ربيع الثاني 1427هـ