العدد 1339 - السبت 06 مايو 2006م الموافق 07 ربيع الثاني 1427هـ

السيناريوهات المستقبلية للمياه والبيئة في الخليج... السوق أولاَ

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

يتصور السيناريو الأول من سيناريوهات البيئة الأربعة للمنطقة، والمسمى بسيناريو «السوق أولاً»، عالماً تكون فيه التنمية خاضعة لقوى وآليات السوق، وتنتشر فيه بشكل تدريجي العولمة وقيم وثقافة المجتمعات الصناعية في دول المنطقة، ويكون التطور فيه طبيعياً من دون مفاجآت، وتترك المشكلات الاجتماعية والضغوط على البيئة لمنطق الإصلاح الذاتي لقوى السوق وتنافسها، وينتج عن ذلك زيادة الفجوة بين شرائح المجتمع وانحسار الطبقة الوسطى. وعلى رغم تحول مجتمعات المنطقة تدريجياً إلى مجتمعات صناعية فإن قضايا مثل الديمقراطية الدستورية والتصويت الحر للرجال والنساء والشفافية والمحاسبة، سمة الدول الصناعية، ستظل بعيدة عن التطبيق في مجتمعات المنطقة. ومن المتوقع أنه بمرور الوقت ستتلاشى التركيبات القبلية/ الاجتماعية المتوارثة في مجتمعات المنطقة، إلا أنها ستبقى قوة رئيسية مؤثرة في تطور المجتمع لوقت طويل، وستظل القرارات تؤخذ بأسلوب «من الأعلى للأسفل» كما هو الحال في المجتمعات الأبوية. وفي هذا السيناريو يحتل القطاع الخاص دوراً رئيسياً في الاستثمار وتحريك عجلة الاقتصاد، بينما يتعرض المشرعون والتنفيذيون الحكوميون لضغوط متزايدة لتقليل تدخلهم في سير آليات السوق الحرة، ويلقى العبء والدور الأكبر في محاولة التغيير والإصلاح على المجتمع المدني، إلا أن محاولاته تكون غير فعالة بسبب هيمنة موضوعات كفاءة تزويد الخدمات وخفض الكلف وزيادة الأرباح. إلا أن الضغوط الناتجة عن السياسات والإجراءات الدولية المتعلقة بالمواصفات والمعايير البيئية على المنتجات المصدرة ستؤدي إلى التزام القطاع الخاص ودول المنطقة بهذه المعايير لضمان الدخول إلى الأسواق العالمية، وسينتج عن ذلك زيادة في فرص الاستثمار في الخدمات والتقنيات البيئية لإرضاء متطلبات السوق التنافسية، ما سينتج عنه تحكم أفضل في الإنبعاثات وتقليل الضغوط على الموارد.

ويفترض هذا السيناريو تخلي الدولة عن دورها في تزويد الخدمة والتحول إلى منظم ومراقب لها، ويفترض أيضا وجود تحالف وثيق بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وتخفيف القيود البيئية لجلب الاستثمارات وجذب القطاع الخاص لرفع الأعباء المالية عن كاهل الحكومة واسترجاع كلف الخدمات. وستزداد وتيرة عملية الخصخصة بشكل كبير وستشمل قطاعات حيوية مثل قطاع المياه وستشمل الإنتاج والإمداد والتحصيل، وعلى رغم من أن ذلك سيؤدي إلى زيادة كفاءة الخدمة، فإن ذلك سيكون مصحوباً بارتفاع أسعار هذه الخدمات ورفع الدعومات ما سيؤثر على شرائح المجتمع الفقيرة وذات الدخل المحدود وسيؤدي إلى تأثيرات سلبية على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي.

أما بيئياً، فإن هذا السيناريو سيؤدي إلى الكثير من المشكلات وزيادة حدة الضغوط على البيئة، إذ يستمر الإجهاد «الاستنزاف» المائي في المنطقة بسبب محدودية الموارد المائية التقليدية وغير التقليدية، وفشل السياسات السكانية في تخفيض معدلات النمو السكاني العالي في المنطقة «أكثر من 3 في المئة» والناتجة عن زيادة جلب العمالة الأجنبية لتلبية متطلبات النمو الاقتصادي المتسارع للأيدي العاملة، وعدم فعالية سياسات التدريب والإحلال للمواطنين الخليجيين، إضافة إلى استمرار ارتفاع معدلات النمو السكاني العالي للمواطنين. وسيؤدي ذلك إلى انخفاض حصة الفرد الخليجي عن مستوياتها الحالية «نحو 300 متر مكعب في السنة»، الواقعة أصلاً تحت خط الفقر المائي «1000 متر مكعب للفرد في السنة»، لتصل إلى مستويات متدنية جداً «الفقر المائي المدقع». وستستمر معدلات الزيادة في الطلب على قدرة الدول على توفير المياه، وسيتم اللجوء إلى المياه الجوفية لتغطية العجز المائي، وسيؤدي ذلك إلى زيادة استنزافها وتدهور نوعيتها وخروج الكثير من خزانات المياه الجوفية من دائرة الاستثمار بسبب عدم صلاحيتها للاستخدام، الأمر الذي سيفاقم شح المياه في المنطقة، كما سيؤدي ذلك إلى تملح وتصحر الأراضي الزراعية وتقليل إنتاج الغذاء، وتدني نوعية المياه المخصصة للسكان.

وفي ضوء ذلك ستزداد حدة المنافسة بين القطاعات الرئيسة المستهلكة للمياه على المصادر الطبيعية للمياه، وخصوصاً بين القطاعين الزراعي «حالياً يستهلك 85 في المئة من المياه الكلية) والبلدي/الصناعي «بسبب النمو السكاني والتوسع الإسكاني السريع والأنشطة الصناعية المتزايدة»، وسيتم تحويل نسب كبيرة من المياه الجوفية من القطاع الزراعي إلى القطاعات الأخرى. ومع زيادة ندرة المياه في المنطقة ستزداد قيمة المياه، وسيتم اللجوء بشكل كبير وبتزايد نحو استخدام المياه غير التقليدية، أي المياه المحلاة والمياه المعالجة، لتلبية الطلب المتصاعد على المياه. وسيمثل ذلك فرصة تجارية كبيرة للدول التي تمتلك هذه التقنيات، وستنشط جهود البحث والتطوير في هاتين التقنيتين مؤدية إلى انخفاض سعر كلفة إنتاج وحدة الماء بشكل كبير. إلا أن دول المنطقة، وعلى رغم اعتمادها الكبير على هذه التقنيات وامتلاكها لحوالي نصف السعة المركبة للتحلية في العالم، ستظل تستورد هذه التقنيات ولن تستطيع توطينها بسبب عدم اهتمامها بجهود البحث والتطوير في هذه التقنيات وتركها للقطاع الخاص. كما أنه وبسبب توافر الطاقة الإحفورية في المنطقة واعتمادها الرئيسي عليها وعدم النظر إلى الطاقات النظيفة المتجددة (مثل الطاقة الشمسية المتوافرة في المنطقة بشكل كبير)، سيضل مصدر الطاقة الرئيسي لتشغيل محطات التحلية الوقود الإحفوري، ومع زيادة الإنتاج من محطات التحلية ستزداد مشكلات تلوث الهواء والبيئة البحرية. ولكن سيتم اتباع الكثير من الإجراءات لتخفيف هذا التلوث مثل استخدام الغاز الطبيعي بدلاً من النفط لتقليل تلوث الهواء واستخدام تقنيات الإنتاج النظيف لتقليل الإنبعاثات الغازية من المحطات، كما سيتم إتباع بعض الإجراءات لتقليل التلوث الحراري والملحي للبيئة البحرية، ولكن وبسبب ارتفاع عدد المحطات المطلة على الخليج العربي سيستمر التأثير البيئي السلبي لها على البيئة البحرية.

أما بالنسبة للمناطق الحضرية، فإنه وبسبب النمو الاقتصادي وزيادة عدد السكان فإن التوسع الحضري سيزداد بشكل كبير وستظهر في المنطقة الكثير من المدن ذات الكثافة السكانية العالية (المشابهة لمدينة الرياض)، وسيكون لذلك الكثير من التأثيرات السلبية على صحة الإنسان والبيئة، المتمثلة في تلوث الهواء والضوضاء والإنتاج المركز للمخلفات البلدية الصلبة والسائلة في منطقة محدودة، وتحويل الأراضي الزراعية المحدودة إلى مناطق سكنية، وسيزداد معدل ردم السواحل والبحر للمشروعات الإسكانية والترفيهية. وبسبب سرعة معدلات النمو الحضري ستعجز البنية التحتية وإنشاء المرافق والخدمات الحضرية من تلبية متطلباتها مؤدية إلى مشكلات بيئية كثيرة، مثل عدم توافر شبكات الصرف الصحي لمناطق كثيرة وسيصحبها انتشار الأمراض في تلك المناطق.

ومع زيادة التوسع العمراني والخدمات الأخرى المصاحبة على حساب الأراضي الزراعية وفي ظل غياب سياسات المحافظة على الأراضي الزراعية، أو وجودها وعدم تطبيقها بسبب عدم صمودها أمام عجلة النمو الاقتصادي والتوسع الحضري، ستزداد معدلات خسارة الأراضي الزراعية المحدودة أصلاً. ومن جهة أخرى سيؤدي النمو السكاني إلى زيادة في الطلب على إنتاج الغذاء محلياً، وسينتج عن ذلك زيادة في استنزاف المياه وتملحها، وتكثيف الزراعة في أراض محدودة، واستنزاف المراعي بزيادة حمولتها الرعوية، وسينتج عن ذلك كله زيادة تدهور الأراضي الزراعية وتصحرها وفي النهاية فقدانها.

وتبعا لهذه الظروف وفي ظل غياب إستراتيجية خليجية موحدة لإنتاج الغذاء تشمل التعاون العربي وتعتمد على الميزة النسبية بين الدول سينخفض الأمن الغذائي في المنطقة وستعتمد المنطقة على استيراد الغذاء في معظم احتياجاتها الأساسية. وستؤدي قوى السوق والفرص الناتجة عن زيادة الطلب على الغذاء وشح العرض إلى انتشار الزراعات غير التقليدية، مثل الزراعات المحمية والزراعة خارج التربة بالإضافة إلى تقدم التقنيات الحيوية وهندسة الجينات الوراثية لزيادة الإنتاج الزراعي وسيتم استنباط وإدخال محاصيل تتحمل الجفاف والملوحة، إلا أن ذلك سيتم بدون الاهتمام أو النظر إلى المخاطر الصحية والبيئية الناتجة من إدخال المحاصيل المعدلة وراثياً في المنطقة، كما أن ذلك لن يحل مشكلة الغذاء وإنما سيخفف من حدتها.

أما بالنسبة للبيئة الساحلية والبحرية فإن تطوير هاتين البيئتين لمشروعات التنمية ومرافق الترفيه والاستجمام سيزداد في الحدة وسيكون مصحوباً بإدارة وتشريعات ضعيفة لتخفيف الأثر البيئي لها، وسيؤدي ذلك إلى تدهور عام للأنظمة الايكولوجية البحرية وتدمير الموائل الطبيعية وخسارة التنوع البيولوجي فيها. كما أن زيادة الطلب على الغذاء في المنطقة من جهة، وعدم وجود استراتيجيات مشتركة للمحافظة على البيئة البحرية بين الدول المطلة على الخليج العربي من جهة أخرى، سيؤدي إلى استنزاف الموارد البحرية والمخزون السمكي. وبسبب استمرار هيمنة النفط على قطاع الطاقة في العالم، وتعاظم دور دول المنطقة في تزويده للعالم «حالياً تمتلك دول المنطقة نحو 70 في المئة من الاحتياطي النفطي وتنتج ما يعادل 45 في المئة من الإنتاج العالمي، ومن المتوقع أنه مع الوقت ومع خروج الدول المنتجة للنفط الأخرى من سوق النفط ستتعاظم أهمية المنطقة كمصدر رئيسي للنفط العالمي، وكذلك بالنسبة للغاز، ويبلغ عمر الاحتياطي النفطي للمنطقة من 50 إلى 100 عام) ستزداد مخاطر التلوث النفطي لبيئة الخليج العربي سواء من عمليات استخراج النفط في المناطق البحرية أو من عمليات نقله (نحو 60 في المئة من عمليات تصدير النفط العالمي تمر عبر مضيق هرمز)، بالإضافة إلى مخاطر الأجناس الغازية أو الغريبة التي يتم تصريفها في مياه الخليج مع مياه التوازن لناقلات النفط».

كما أنه من المتوقع أن تزداد الصناعات البتروكيماوية ومحطات التحلية والصناعات الأخرى وأن تنتشر على سواحل الخليج العربي، وستستمر الرقابة البيئية الضعيفة لها بسبب مساهمتها الكبيرة في الدخل الاقتصادي العام لدول المنطقة، ما سيؤدي إلى زيادة حجم الملوثات الصناعية للبيئة البحرية. وفي ضوء ذلك سيحدث تدهور عام للبيئة البحرية وتدمير مستمر لموائل الأحياء البحرية وتناقص أجناسها وستزداد حالات نفوق الأسماك والتأثيرات الصحية على الإنسان وسيؤدي ذلك إلى انخفاض إنتاج البروتين من البيئة البحرية وخسارة لصناعة الأسماك في المنطقة. ونتيجة لذلك ستزدهر صناعة تربية الأسماك لتلبية الطلب على البروتين السمكي من القطاع الخاص وسيتم تشجيعها من الحكومات تحت ضغوط الطلب على الغذاء، ولكن ستلقى المخاطر المصاحبة لهذه الصناعات والمتمثلة في تسرب الأجناس الغريبة للبيئة البحرية وانتشار الأمراض والمخلفات المركزة لها وتدمير الموائل الطبيعية مثل مناطق نباتات القرم اهتماماً قليلاً من قبل الدول.

وعموماً فإن هذا السيناريو، كما ذكر أعلاه، سينتج عنه ارتفاع في حمولات التلوث على البيئة في المنطقة وستكون لذلك تأثيرات سلبية كثيرة على الإنسان والبيئة، وذلك بسبب التركيز على النمو الاقتصادي وتشجيع الاستثمارات وخصوصاً من قبل القطاع الخاص، وإعطاء أهمية قليلة نسبياً للجوانب البيئية.

المقال القادم سيستعرض سيناريو «السياسات أولاً»، إذ تتدخل الحكومات بشكل قوي وفعال لتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية وحماية أكبر للبيئة

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1339 - السبت 06 مايو 2006م الموافق 07 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً