«نخطط للحوار واستمرار المفاوضات مع المجتمع الدولي كأنه قائم أبداً، ونستعد للحرب مع أميركا كأنها واقعة غداً».
هذا هو لسان حال الإيرانيين اليوم وهم يواجهون حال التصعيد المتنامية التي تفرضها الإدارة الأميركية ضد ملفهم النووي. نعم ثمة سباق محموم من «الوساطات» وحركة مكوكية مكثفة من قبل «ناقلي الرسائل» المتبادلة بين واشنطن وطهران جوهرها البحث عن «تسوية» مشرفة ترضي الطرفين وتحفظ ماء الوجه لكليهما بعد أن تم رفع السقف الى نهاياته الممكنة دبلوماسياً واعلامياً ونفسياً.
لكن طهران كانت واضحة مع الجميع عندما ابلغتهم بصريح العبارة بانها ليست بصدد التفاوض بشأن ما تعتبره ركناً اساسياً من اركان استقلالها وخطاً أحمر من خطوط امنها القومي ألا وهو الاعتراف بحقها في التخصيب وصناعة الوقود والدورة النووية الكاملة للاغراض السلمية، مقابل التفاوض المفتوح بشأن كل أشكال الآليات والادوات والأطراف المشاركة الآن أو في المستقبل من أجل تقديم الضمانات العينية اللازمة لعدم «الانحراف» نحو التسلح النووي.
وحدها الولايات المتحدة الأميركية متسلحة بتحريض إسرائيلي مستمر ترفض فكرة التفاوض مع طهران على القواعد الشرعية المعروفة وفي إطار مرجعية الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أما ما عداها من الوفود والأطراف والدول فهي على العكس تماماً اياً كان اعتراضها على طهران أو تقاربها مع واشنطن.
الصين وروسيا ابلغتا طهران بوضوح بانهما ضد فرض أي شكل من اشكال العقوبات ضدها ناهيك عن اللجوء الى خيار الحرب الخطير والخطير جداً والذي سيكون خطيئة استراتيجية سترتكبها واشنطن فيما لو اقدمت على ارتكاب مثل تلك «الحماقة» كما يقولون.
الصينيون يذهبون أبعد من ذلك عندما يقولون إنه ليس من شأن مجلس الأمن في هذه المرحلة ان يبحث اتخاذ إجراءات ضد طهران إذ لم يكلفه احد بذلك، والمطلوب منه «المساعدة» في ايجاد الحلول والآليات المناسبة لحل الملفات العالقة بين طهران والوكالة الدولية لا غير!
الترويكا الأوروبية بدورها أيضاً ليست راضية عن أي خيار حربي في هذه المرحلة بقدر ما هي بصدد استخدام «العصا» الأميركية و«شرعية» مجلس الأمن للضغط على إيران من أجل اجبارها على العودة الى النقطة التي توقفت عندها المفاوضات في نهاية عهد الرئيس خاتمي.
يبقى أن «حاملي الرسائل» من العرب هذه الأيام وهم كثر وآخرهم الأمير القطري... سمعوا كما أسلفنا كلاماً واضحاً وصريحاً من طهران خلاصته ما بدأنا به مقالتنا هذه مع التأكيد أن لا احد في طهران يسعى الى المغامرة ناهيك عن المقامرة بأمن واستقرار المنطقة.
لكن الأمر المهم الذي تتوقعه طهران من العرب مجتمعين ولاسيما من دول مجلس التعاون هو أن يرتقي قلقهم المشروع من احتمال نشوب نزاع دموي جديد أو حرب مجنونة جديدة الى مستوى الموقف الصريح والحازم والقاطع بأن سماءهم وارضهم ومياههم لن تكون ممراً لقارعي طبول الحرب هذه المرة كما حصل مع العراق، فإيران ليست العراق ولا بأي شكل من الاشكال اياً كانت «شرعية» أو «مشروعية» الموقف من غزو العراق!
نعم العرب قادرون تماماً على منع قيام مغامرة أو مقامرة جديدة. هذا مع العلم بان طهران كما تقول قادرة على «رد الصاع صاعين» ونقل المعركة الى «مدى العالم كله» وتغيير خريطة المصالح الإقليمية والدولية ناهيك عن وضع حد والى الأبد للعنجهية الإسرائيلية! كما يتحدث الإيرانيون في أروقتهم الخلفية!
لكن ثمة هدوءاً لافتاً في طهران على رغم كل مواقف التصلب المعروفة، وكأن شيئاً لم يكن حتى الآن! وليس هناك ملف نووي يبحث في مجلس الأمن الدولي ولا في غير مجلس الأمن الدولي!
لكن بالمقابل ثمة «قيامتين» تعيشهما إيران يقف وراء كتلتيهما ذلك الرئيس الشاب والثوري المتحمس القادم من بين صفوف العامة من الشعب والذي كان شعاره الانتخابي المركزي: أني آتيكم «من جنس الناس».
القيامة الأولى هي «قيامة» التمهيد أو التوطئة لظهور المهدي المنتظر وهو الأمام الثاني عشر من ائمة الشيعة الغائب منذ مئات السنين والذي سيظهر مخلصاً لإعادة احياء العدالة ودفع الظلم عن العالمين.
وفي هذا السياق يتصرف أحمدي نجاد وفريقه الحاكم من «المحافظين الجدد» الإيرانيين طبعاً، وكأنهم يمتلكون أو يعدون لامتلاك «خريطة طريق»! لهذا الأمر، ولما كانت هذه العقيدة «المهدوية» من اركان الفكر الشيعي فإنهم استطاعوا عملياً «استمالة» أكثرية وافرة من جمهور الناس لصالحهم أو كحد أدنى «تحييدهم» في أي نزاع داخلي على السلطة وتالياً ضم المسلمين التقليديين البعيدين عن ميادين السياسة المباشرة الى «قيامة» دينية مشروعة عملياً للدفاع عن النظام في اية معركة خارجية محتملة وهذا أمر ليس بالقليل.
القيامة الثانية، هي «قيامة» اطلاق الحس القومي الإيراني الى ابعد الحدود الممكنة والى كل مستويات الشعب بتضاريسه الطبقية المختلفة.
وفي هذا الصدد يتصرف أحمدي نجاد وفريقه الحاكم وكأنه يمتلك أو يعد لامتلاك «خريطة طريق» لنهضة اجتماعية إيرانية بعيداً عن «الانواء الجوية» للسياسيين والطبقة السياسية المؤدلجة الحاكمة! وفي هذا السياق يمكن فهم سياسة اطلاق الحريات الاجتماعية على حالها وفي سياقاتها الداخلية من دون تدخل الحكومة تاركين مهمة الكوابح أو اللجام الديني أو العرقي للمؤسسات غير الحكومية، وهنا بالذات تأتي تصريحات أحمدي نجاد بشأن رفضه فرض مقررات للحجاب بالقوة أو اطلاق حرية حضور النساء والعوائل في الملاعب الرياضية في سياقها الأنف الذكر.
وفي هذه الحال يكون أحمدي نجاد وفريقه قد استمال أو «حيد» على الأقل ما تبقى من الأكثرية الوافرة من جمهور الناس عن معركة النزاع السياسي الداخلي على السلطة وتالياً «حاشراً» الطبقة السياسية المخالفة أو المختلفة معه في الزاوية تماماً.
هاتان «القيامتان» كفيلتان برأي القارئين بعناية لما يجري في الداخل الإيراني بانجاح أي الخيارين الذي ستلجأ له الحكومة مدعومة بكلية النظام في التعامل مع واشنطن سلماً أو حرباً.
وقد يكون هذا هو تفسير الهدوء اللافت، وقد يكون شيئاً آخر لا يفعهه الا «الراسخون» في علم الكتاب الإيراني المفتوح المليء بالالغاز
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1338 - الجمعة 05 مايو 2006م الموافق 06 ربيع الثاني 1427هـ