لا شك أنها كانت أعظم لحظة في الحياة السياسية لرئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دو فيلبان حين كان في العام 2003 يشغل منصب وزير الخارجية وألقى كلمة في مجلس الأمن معلناً معارضة بلاده خطة أميركا غزو العراق. وجاء في كلمة دوفيلبان أيضا دعوته منح المفتشين الدوليين مهلة أطول للتأكد من وجود أو خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل التي كانت أميركا وبريطانيا تصران على أن العرق يحوزها حين أنهى دوفيلبان كلمته صفق غالبية الحاضرين مطولا وبحماس شديد. في مساء ذلك اليوم حصل دوفيلبان وهو يجلس في غرفته في الفندق على فكرة عن نفوذ الإدارة الأميركية على وسائل الإعلام المحلية. فقد تم عن عمد قطع المشاهد التي فيها تصفيق كما تم حذف العبارات التي حدد فيها دوفيلبان موقف بلاده الناقد لخطة واشنطن. وقالت مصادر دبلوماسية أن شعور دوفيلبان بالألم لهذا التعتيم الإعلامي في دولة ديمقراطية دفعه إلى التفكير في مشروع قديم اطلع عليه منذ سنوات ويقضي بإنشاء محطة تلفزيونية دولية باللغة الفرنسية. لاحقاً، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2005 وكان دوفيلبان أصبح يشغل منصب رئيس الوزراء، وقع بحماس على اتفاق مع كبار المسئولين في محطة التلفزيون الفرنسية العامة والمحطة الخاصة «تي اف 1» لإنشاء شبكة الإعلام الفرنسية الدولية (IIFC)
سفير الأخبار الفرنسية والشبكة العالمية
سيقود المشروع ألان دو بوزيلهاك الذي هو حتى وقت قصير يشغل منصب مدير شركة كبيرة للإعلان ولديه خبرة طويلة في مجال الإعلام الدولي. وقال انه ينزعج لعدم وجود صوت فرنسي مستقل في شبكة الأخبار العالمية، على العكس من ألمانيا التي تمول حكومتها محطة «صوت ألمانيا» التي تبث بعدة لغات بينها العربية. وبذلك أصبح بوزيلهاك سفيراً للأخبار أخذ على عاتقه مشروع إنشاء محطة للأخبار على غرار محطة «سي ان ان» الأميركية. إضافة إلى تمويل خاص قدره 30 مليون يورو سيحصل على 65 مليون يورو سنويا من الحكومة الفرنسية لتمويل موازنة «صوت فرنسا» في العالم وسيجرى بث برامج المحطة الفرنسية في الفترة بين 10 نوفمبر و10 ديسمبر/ كانون الأول .2006
حرب الجبهات الأمامية لتحسين سمعة فرنسا
يضفي على هذا المشروع أهمية سياسية ما ذكره الرئيس الفرنسي جاك شيراك بشأن مهمة بوزيلهاك حين قال انها بمثابة حرب على الجبهات الأمامية لتحسين سمعة فرنسا في العالم.
ليس من الصعب تجاهل أسباب الحماس الفرنسي لإنشاء محطة تلفزيون عالمية باللغة الفرنسية. فقد قامت محطة «سي ان ان» الأميركية أخيرا ببث تقرير عن احتجاجات الشوارع في باريس وجاء في التعليق أن المنظر يشبه احتجاجات الطلبة الصينيين في بكين العام .1989 احتجت الحكومة الفرنسية على الفور عبر قنواتها الدبلوماسية، مشيرة إلى أن الشرطة الفرنسية لم تطلق رصاصة واحدة خلال الاحتجاجات ولم يسقط قتلى في صفوف المحتجين.
هناك سبب مهم أيضاً، يتمثل في أن فرنسا عازمة على وضع نهاية للهيمنة الأميركية البريطانية على الإعلام العالمي. وسيتم العمل بمحطتين باللغة الفرنسية. الأولى موجهة إلى أوروبا والثانية إلى المغرب وإفريقيا. برامج الأولى ستبث باللغة الفرنسية ونسبة 75 في المئة من برامج المحطة الثانية ستبث باللغة الإنجليزية. وعلى رغم أن نسبة 2 في المئة في العالم فقط يتحدثون لغة «فولتير» فإن في قصر الإليزيه يقف وراء مقترح بث برامج المحطة الثانية باللغة الإنجليزية للترويج لسمعة فرنسا في العالم.
باريس ليست الوحيدة
فرنسا ليست البلد الوحيد في العالم الذي يريد وقف هيمنة هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» ومحطة «سي ان ان». فقد بدأ العالم يشهد إنشاء الكثير من شبكات التلفزيون العالمية ومنها على سبيل المثال:
ــ «الجزيرة إنترناشيونال» التي ستبدأ بث برامجها باللغة الإنجليزية في مطلع يونيو/ حزيران المقبل وتنضم إلى قنوات «الجزيرة» الأخرى، الأخبار بالعربية والأطفال والرياضة.
ــ وتستعد الـ «بي بي سي» لبث برامج تلفزيون بالعربية لتخترق العالم العربي وتنافس الفضائيات العربية.
ــ منذ نصف عام تبث شبكة التلفزيون «روسيا اليوم» برامجها باللغة الإنجليزية والتي يمول الكرملين نصف موازنتها.
ــ وردا على هيمنة إعلام أميركا الشمالية في العالم وأميركا الجنوبية خصوصاً اتفقت مجموعة من دول أميركا الجنوبية بتحريض من الرئيس الفنزويللي هوغو تشافيز على إنشاء شبكة تلفزيون لأميركا اللاتينية «تلي دول سور» أو«تلي سور» تبث برامجها منذ يوليو/ تموز 2005 وتمولها فنزويلا التي حصتها 51 في المئة وكوبا التي تبلغ حصتها 14 في المئة. ــ وتجري منذ وقت في نيروبي محادثات لإنشاء شبكة تلفزيونية عالمية باللغة الإنجليزية تشارك في تمويلها مجموعة من الدول الإفريقية.
وقال المدير التنفيذي في محطة «صوت ألمانيا» كريستوفر لنز الذي عاد للتو من مؤتمر لممثلي وسائل الإعلام استضافته كازاخستان: «يشبه الوضع منافسة دولية على التسلح بوسائل الإعلام... في العام الماضي بدأت صوت ألمانيا التي تمولها وزارة الخارجية الألمانية وصندوق الضرائب، تبث برامجها بمعدل ثلاث ساعات باللغة العربية وتزود التلفزيون الأفغاني ببرامج وهناك خطة لزيادة مدة البث وتصبح 12 ساعة يومياً بدءاً من سبتمبر/ أيلول المقبل، وبدخولها المبكر إلى العالم العربي حققت محطة صوت ألمانيا قفزة متقدمة على الـبي بي سي وروسيا اليوم. ويعتزم الروس بث برامج باللغة العربية مدة 21 ساعة يوميا بدءا من يناير/ كانون الثاني المقبل كما يخطط الفرنسيون لبث برامج بالعربية بدءاً من خريف 2007».
إن كانت التسمية «حرباً إعلامية عالمية» أو «حرب تحسين سمعة الأنظمة» فإن العقل العربي هو المستهدف الرئيسي في هذه الحرب. والدليل على ذلك أن شبكات التلفزيون العالمية الجديدة تركز على الأسواق العربية وهذا ليس مجرد صدفة كما هو ليس هدف حرب المعلومات تجاريا
العدد 1338 - الجمعة 05 مايو 2006م الموافق 06 ربيع الثاني 1427هـ