بين رحيل كانط، الذي يعتبره ميشال فوكو أحد كبار المؤسسين للفلسفة الحديثة، ورحيل هيغل 27 سنة.
الفترة قصيرة ولكنها كافية لإعادة تأسيس قمة أوروبية جديدة في الفلسفة. فهيغل طور منهجية كانط النقدية ثم انتقدها وتجاوزها. وهذا التطور النوعي في المعرفة لم يسقط فجأة من أعلى وانما جاء نتاج التطور العمراني الذي شهدته القارة في مختلف المستويات والحقول. فالقارة اتسع مجالها الجغرافي تجارياً ودخلت فترة احتكاك مباشر مع شعوب العالم بعد أن استغنت عن الوسيط المسلم ودارت حول العالم الإسلامي من خلال تأسيسها لوسائل جديدة في الاتصالات والمواصلات.
إلى ذلك كانت أوروبا حققت قفزات نوعية في حقول العلوم التطبيقية والوضعية واخذت نظريات الفيزياء منذ اسحق نيوتن في التأثير على الاهتمامات الفلسفية. وترافق الأمر مع نمو الآلة وتقدمها في مجال الصناعة والانتاج وتوفير نوع من الرفاهية الاجتماعية لمختلف طبقات المجتمع.
هذا التقدم الشامل افرز وجهات نظر شمولية في رؤية التاريخ والكون. واخذت النظريات الكونية (العولمة الجديدة) تظهر كقراءات اجتماعية للإنسان والعقل والنوع والتنوع الحضاري. فأوروبا اخذت تكتشف نفسها بعد أن نجحت في اكتشاف العالم. وهذا الاكتشاف المركب اعطى فرصة للفلاسفة في إعادة قراءة الفلسفة في ضوء «التقدم» والنمو الحديث للعلاقات الإنسانية.
وبسبب هذا التعقيد في التطور وتسارعه على أكثر من صعيد ظهرت إلى جانب المفاهيم الإنسانية وجهات نظر قومية وعنصرية وتفوقية تنظر إلى البشر ضمن قراءات طبقية. فالمجتمع طبقات وكذلك البشر طبقات يتدرج خلالها الإنسان من درجة دنيا متخلفة (الحيوان) إلى درجة عليا وصولاً إلى الارقى (الإنسان الأوروبي).
كل هذه المدارس الفلسفية ستشهدها أوروبا منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر. وخلال هذه الفترة التي تجاوزت قليلاً مئة سنة ستغرق أوروبا بعشرات من الفروع المعرفية المتفاوتة في رقيها وشموليتها من اقتصاد وسياسة واجتماع وعلوم مختبرية وهندسية وفيزياء وتقنيات وآراء فلسفية تنويرية وظلامية، إنسانية وعنصرية، كونية وقومية، رأسمالية واشتراكية، إيمانية وإلحادية، رجعية وثورية، نقابية وفوضوية.
التطور الأوروبي فاق في تصوراته حدود القارة وتحول إلى نوع من المركزية الدولية التي تفرض تصوراتها على العالم في وقت كانت دول القارة تتنافس على القيادة وتزعم مجرى التاريخ المعاصر. وهذا التاريخ في مجراه الحديث كان يتشكل زمنياً ومحلياً وكونياً في وقت واحد. وكان أيضاً ينتقل من دولة إلى أخرى ومن فيلسوف إلى آخر وبسرعة قياسية لم تشهدها البشرية في ازمنة سابقة.
الفارق الزمني بين كانط وهيغل قصير بحسابات التطور القديم إلا أنه بحسابات أوروبا الحديثة كان فترة طويلة. ففي هذه السنوات ظهر الامبراطور (نابليون) في فرنسا وقادها إلى حروب اسقطته في العالم 1815. فالامبراطورية لم تصمد أكثر من 11 سنة كذلك زعامة كانط للفلسفة الأوروبية لن تصمد أكثر من 27 سنة لتنتقل إلى هيغل وما تفرع عنه من وجهات نظر اسست الكثير من المدارس الفلسفية.
هيغل عاصر نابليون وتوفي بعد عشر سنوات من رحيل الامبراطور. وفي هذا الفضاء الأوروبي شهدت القارة بدايات الحروب المعاصرة التي ستلعب دورها في تطوير الآلة العسكرية وتحديثها وإعادة استخدامها في حروب قارية داخلية أو حروب كونية عالمية أو ضد الشعوب المسكينة التي وقعت ضحية التوسع الاستعماري والتنافس بين دول أوروبا على نهب خامات العالم الثالث وثروات الأمم الضعيفة والمستضعفة. وسينال العالم الإسلامي (العربي) النصيب الأكبر من كل تلك النتائج السلبية التي ترتبت عن النمو الأوروبي المتسارع وما خلفه من تداعيات لم تكن بعيدة عن نزعة ثأرية من الإسلام وتاريخه ونشاطه الحضاري أو التجاري أو موقعه الكوني في المعادلة الدولية.
بين هيغل وكانط 27 سنة. وخلال هذه الفترة الطويلة بمقاسها الزمني الحديث ستقطع المعرفة الأوروبية خطوات جديدة متشعبة سيقوم الفيلسوف فيخته (الالماني) بتأسيس جانب منها، بينما سيتكفل الفيلسوف جيرمي بينثام (الانجليزي) بتأسيس الجانب الآخر منها.
توفي فيخته في العام 1814 (1229هـ) وكان على اتصال بكانط وفلسفته المثالية النقدية ولكنه عاد واسس طريقته الخاصة بعد أن شهد ذاك الاجتياح الامبراطوري الذي قاده بونابرت. تشكلت فلسفة فيخته المثالية انطلاقاً من قراءة منطقية للتطور من خلال نمو الذات الإنسانية. فهو يركز على ذات الإنسان ورؤيتها لنفسها. فالانتباه إلى الذات هو بداية كل معرفة. والمعرفة تتدرج برأيه من تنبه الذات إلى الذات، ثم تنبه الذات إلى الآخر (النقيض المقابل)، ثم ارتفاع الذات وجمعها بين الذات والمقابل.
انطلق فيخته من رؤية مثالية للكون توحد بين العلم والمعلوم الأمر الذي جعله يمرحل تطور الفكر البشري إلى ثلاث محطات: التفكير الايجابي، التفكير السلبي، والتفكير المتعالي الذي يجمع النقيضين (التسوية) من خلال استخدام منهج الجدل.
في مقابل نزعة فيخته المثالية أسس بينثام فلسفته النفعية التي سيكون لها تأثيرها الكبير على فلسفة جون ستيورات ميل السياسية. ولد بينثام في لندن في العام 1748 (1161هـ) ودرس في ثانوية وستمنستر ومعهد كونيز. وبدأ يكتب تعليقات عن القانون الانجليزي ونشرها في كتاب صدر في العام 1776. وقام في العام 1785 بزيارة شقيقه في روسيا وعاد في العام 1788 لينشر كتابه المهم في العام 1789 عن «المبادئ والاخلاقيات والتشريع». ومنذ ذاك التاريخ انخرط في سلسلة انشطة سياسية واجتماعية إلى أن تعرف على عائلة ميل (جيمس والدجون) في العام 1808. وبعدها اخذت افكاره الاجتماعية التي تتحدث عن المعرفة النفعية تترك تأثيراتها على صناع القرار في جيله والاجيال التي جاءت بعده.
أطلق على منهج بينثام في الفلسفة «مذهب المنفعة» وهو يقوم على فكرة أن النظريات والمفاهيم والمؤسسات والأعمال تتأسس على قاعدة مدى فائدتها. ووظيفة المنفعة في النهاية هي تحقيق السعادة للإنسان. فالغاية برأي بينثام هي السعادة ولذلك لابد من البحث عن الخير للإنسان والإنسانية وهذا لا يمكن الوصول إليه من دون تطوير المؤسسات لتحقيق المنفعة (أو المصلحة) لأكبر عدد من البشر.
ادت ملاحظات وانتقادات وانشطة بينثام إلى انجاز الكثير من الاصلاحات الاجتماعية المطلوبة لرفاهية الإنسان وضمان حقوقه. فمثلاً نجح في استصدار قوانين وإعادة تنظيم مؤسسات تراعي المصالح العامة للناس، كذلك اسهم في التشجيع على إصلاح نظام المحاكم القضائية وتجريدها عن المصالح الشخصية ووضعها في خدمة المصالح العامة.
توفي بينثام في العام 1832 (عاش 84 سنة) بعد سنة من رحيل هيغل. إلا أن الأخير يعتبر وفق كل المقاييس الزمنية والفكرية نقلة نوعية مفارقة في تطور المعرفة الأوروبية في عصرها الحديث.
هيغل وفلسفته
يعتبر هيغل عن حق «أبا الفلسفة» الأوروبية المعاصرة بل هو في المعنى المذكور فيلسوف الفلاسفة، إذ اثرت اعماله الكثيرة ونتاجه الضخم وحقول المعرفة التي خاض غمارها (على تنوعها وتعددها) على عشرات المفكرين وشكلت مصدر إلهام لمعظم الفلاسفة الذين عاصروه أو عاشوا بعده. ومنذ وفاته قبل 175 سنة لايزال «عقل» هيغل مصدراً للفكر الفلسفي ونقطة ارتكاز لمدارس مختلفة تنوعت إلى حد التناقض.
لماذا تحول هيغل إلى فاصل زمني بين حقبتين في تطور الفكر الأوروبي؟ قبل هيغل تطورت الفلسفة الأوروبية المعاصرة بهدوء وبطء منذ مطلع القرن الخامس عشر إلى أن وصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر حين نجح كانط في تطويرها ونقدها ونقلها إلى ألمانيا. إلا أن الفلسفة شهدت على يد هيغل قفزة نوعية إلى الأمام في مطلع القرن التاسع عشر وتحديداً بين (1800 - 1831) بلغت قمتها العقلانية عندما نجح في اكتشاف نظريته وصوغ قانونه الديالكتيكي (جدلية الروح) وقام بتطبيقه على التاريخ والجغرافيا والفكر والسياسة والفن واللغة والاجتماع والاقتصاد والتطور إلى آخره. وهو أمر يعترف بجميله كل الفلاسفة في أوروبا.
تطورت الفلسفة الأوروبية ووصلت إلى قمتها العليا (هيغل) ثم انحدرت من بعده ونتجت عنها في هبوطها سلسلة جبال لم تصل أعلى قممها إلى الارتفاع الذي وصلته فلسفته.
إلى ذلك هيمن شبح هيغل وخياله على القارة الأوروبية وباتت فلسفته مصدراً للمدارس الاخرى إذ اخذ كل فيلسوف فكرة من افكاره وأعاد تطبيقها في منهج مختلف أو قام بتوسيعها وبلورتها من منظار آخر.
«جدليات الروح» عنده تفرعت عند غيره إلى «جدليات» كثيرة منها جدليات المادة، التاريخ، الطبيعة، البشر، الاجتماع، اللغة. وقراءة التاريخ (فلسفته) تفرعت عنها مدارس كثيرة منها التاريخ الاجتماعي، السياسي، الفني، اللغوي (الالسني)، الوجودي، والتاريخ الديني وغيرها من مدارس.
أخذ عنه كارل ماركس ديالكتيك «الروح» وطبقه على «المادة». كذلك أخذ فكرة ظهور الدولة وتطورها الاجتماعي والتاريخي وطبقها على نشوء الطبقات والصراع الطبقي، كذلك فكرة الملكية الخاصة والتقسيم الاجتماعي، وفكرة المجتمع المدني، وأيضاً فكرة النظام البطريركي... إلى آخره. وأخذ عنه تشارلز داروين فكرة النشوء والارتقاء من حيث ان الفكرة عند هيغل «تسير نحو تعارض لامتناه» أي نحو «تعارض بين الفكرة في صورتها الكلية الحرة - التي توجد فيها لذاتها - والصورة المقابلة لها» وتسعى الفلسفة إلى «ادراك المضمون الجوهري أو الوجه الواقعي للفكرة الالهية، وإلى تبرير الواقع الحقيقي للأشياء» فقام داروين بنقل نشوء الفكرة وارتقائها من مستوى الوعي إلى مستوى البشر (تاريخ النشوء والارتقاء).
وأثرت فكرة هيغل عن «الطوائف الحرفية» و«التجارة النمطية الرتيبة» على منهج ماكس فيبر التاريخي. فهيغل اشتغل على الفلسفة الهندية القديمة (الطوائف والطبقات وتشريع مانوا الهندي) ثم بحث في موضوع علاقة الحرف (المهن) بالطوائف الدينية في ألمانيا وأوروبا وقبائل أميركا (الهنود الحمر وثقافاتهم) وصولاً إلى اختلاف انماط وعلاقات الكنيسة الكاثوليكية عن الكنيسة البروتست
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1337 - الخميس 04 مايو 2006م الموافق 05 ربيع الثاني 1427هـ