عملت الرسالات السماوية في جهودها المتراكمة على توفير الظروف والأجواء الملائمة لبناء مجتمع إنساني متكامل يرتكز على أسس العدل والحق وحماية الضعيف، ورفض كل أشكال التمييز العنصري والطبقي على أساس أن الناس سواسية كأسنان المشط وأنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. وجاءت التعاليم الإسلامية لتصبّ في إطار هذا البناء الاجتماعي المتكامل الذي أريد له أن يكون متماسكاً ومتيناً وقائماً على أسس حفظ التوازن بين كل التنوعات البشرية بشعوبها وحضاراتها المتعددة. مجمل القوانين والآداب الإسلامية المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، من الأسرة الصغيرة إلى دائرة الأرحام والأصدقاء، إلى الأقوام والطوائف، وانتهاءً بالشعوب المتنوعة، كافية للتدليل على أنها هدفت إلى ما يأتي:
أولاً: تركيز مبدأ الاخوة بين بني البشر، فالإنسان أخو الإنسان وليس مجرد شريك تجاري أو صناعي أو أن العلاقة بينهما تنطلق من صداقة مؤقتة أو مصالح آنية «كلكم لآدم وآدم من تراب»، وهذا المبدأ يستتبع رفضاً قاطعاً لكل أشكال التمييز بين البشر.
ثانياً: إرساء منطق العدل وقواعد الإنصاف بين الناس كافة، ورفض كل أشكال الظلم التي يتعرض لها الإنسان كمبدأ أساس في العلاقات الدولية الإنسانية.
ثالثاً: التضامن والتكافل بين بني البشر بما يمثله من انفتاح الإنسان على أخيه الإنسان، وتعاونهما في سبيل تحقيق الأهداف المشتركة وتبادل الخبرات بما يكفل حماية المجتمع الإنساني برمته، لا حماية دولة هنا أو مجتمع معين هناك.
وعليه، فإن الإسلام يرفض منطق الدولة المهيمنة التي تفرض قوانينها غير الإنسانية على بقية الشعوب والدول، وتعمل على احتكار الجانب الإبداعي والتكنولوجي والعلمي لمصلحتها على حساب مصالح الآخرين، كما تعمل على مصادرة إرادات الشعوب والدول تحت عنوان إرادة المجتمع الدولي التي قد تختفي وراءها إرادة الدولة المسيطرة أو بعض الدول التي تدور في فلكها أو ما اصطلح على تسميته دول القرار أو ما إلى ذلك. وعلى هذا الأساس نريد أن نقف عند مصطلح «المجتمع الدولي»، فنحن في الأصل لسنا ضد وجود علاقات متينة بين الدول ولسنا بوارد رفض القوانين الدولية التي من شأنها خدمة الإنسان وحماية المجتمع الإنساني عموماً، بل إن الإسلام كان سباقاً في وضع أسس العلاقات الدولية وإرساء قوانينها التي أخذ ميثاق الأمم المتحدة بالكثير منها، ولكننا نتوجس من حركة هذا المصطلح على مستوى الاستخدام السياسي، فمن هو هذا المجتمع الدولي؟ هل يضم الدول الصغيرة والمستضعفة التي لا تملك أية قوة عسكرية أو اقتصادية؟ وهل يُحسب لهذه الدول حساب عندما ينطلق الحديث عن أن المجتمع الدولي قرر كذا وكذا؟ وهل تراعى المصالح الإنسانية العامة، ومصالح مختلف الشعوب عندما يدور الحديث حول هذا المجتمع وقراراته، أم أن هناك بعض الدول التي تختصر هذا المجتمع وتفرض قراراتها باسمه وتحاول أن تغلفها بعناوين متعددة من بينها عنوان الشرعية الدولية، ليغدو مصطلح «المجتمع الدولي» سيفاً مسلطاً على رقاب الدول الصغيرة والمستضعفة التي لا تسير في ركب الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة؟
إننا نسأل: كيف يمكن تفسير ازدواجية المعايير والاستنسابية في تحريك قرارات ما يسمى «الشرعية الدولية» أو ما يصطلح عليه بـ «إرادة المجتمع الدولي» ليغض الطرف عن بعض الدول أو الكيانات على رغم مروقها وتنكرها لقرارات هذا المجتمع وهذه «الشرعية الدولية»، بينما يراد من دول أخرى أن تنصاع انصياعاً كاملاً لقرارات هذا المجتمع وإن كانت ظالمة وجائرة... إننا نخشى من أن مصطلح «المجتمع الدولي»، قد تحول فعلاً إلى فزاعة بوجه الشعوب المقهورة، واستخدم ولايزال يستخدم سلاحاً لمنع هذه الشعوب من تقرير مصيرها وتحقيق استقلالها وبالتالي منعها من الوصول إلى حقوقها التي تجعلها دولة مستغنية عن الآخرين وواحدة من الدول المعترف بها داخل الأسرة الدولية.
إننا ننظر إلى القرارات الأخيرة المتخذة ضد حكومة حماس من قبل الدول الكبرى، أميركا أو دول الاتحاد الأوروبي، على أنها جزء من هذا الظلم التاريخي اللاحق بحق الفلسطينيين تحت لافتة المجتمع الدولي، وهي قرارات تتاسم بالعنصرية والظلم في الوقت الذي نلاحظ أن هذه الدول تواجه كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية بشعار «معاداة السامية» الذي أصبح قراراً جاثماً فوق رأس كل من تسول له نفسه فضح السياسة الإسرائيلية العدوانية. كما نلمح الازدواجية في المعايير التي تفرض نفسها من خلال التعاطي مع الملف النووي الإيراني السلمي الذي تنطلق فيه التهديدات التي من بينها ما صدر من مواقف أوروبية تقول إن «على إيران أن تعي أن مسألة وجود دولة إيرانية مجهزة عسكرياً بالسلاح النووي هو أمر غير مقبول بالنسبة إلى المجموعة الدولية». والحال أن إيران تصر على سلمية برنامجها، وهي التي وقعت ضحية للأسلحة الكيماوية التي استخدمت ضدها بتوجيه أو بتغطية من هذه المجموعة الدولية نفسها. واللافت أن هذا التصلب بوجه المشروع النووي الإيراني السلمي يتحول إلى مرونة وتفهم أو صمت مطلق إزاء المشروع النووي الإسرائيلي الذي يهدد المنطقة والسلم في العالم.
لقد تحول مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى أداة طيّعة لملاحقة الشعوب المستضعفة أو الدول الطامحة للتحرر من ضغط السياسة الأميركية، كما تحولت «اللجنة الرباعية» إلى أداة للضغط على الفلسطينيين الذين تصادر أراضيهم من قبل الاحتلال والاستيطان اليهودي وترتكب ضدهم المجازر ويُشاد على أرضهم جدار الفصل والعار ويراد لهم على رغم ذلك كله الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي الذي لا يعترف بهم كشعب، وكل ذلك تحت مقولة «المجتمع الدولي» الذي لا يتحرك في خط الإجماع أو التوافق إلا إذا كانت المسألة تستهدف العرب والمسلمين.
إننا نخشى من أن أميركا التي جرت خلفها ما يسمى «المجتمع الدولي» إلى الحرب على العراق تحت عنوان أسلحة الدمار الشامل أن تجر هذا المجتمع إلى حرب دامية أخرى في المنطقة من خلال تضخيمها للملف النووي الإيراني السلمي وسعيها إلى تعطيل المبادرات الأوروبية والروسية والصينية بالضغط في كل الاتجاهات، ولكن حرباً من هذا النوع لن تحرق المنطقة فحسب، بل ستحرق مشروعاً أميركياً كاملاً بني على قاعدة أن نقاتل في مواقع الآخرين ونكسب ثرواتهم. فالعالم تغير وعصر الحروب التي كان يربح فيها طرف دولي على حساب الآخرين لم يعد له من وزن، وباتت مغامرات الإدارة الأميركية تمثل نزقاً يصيب العالم كله، ولكنها لن تكون في مأمن من النتائج القاسية في كل مغامراتها اللاحقة
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1337 - الخميس 04 مايو 2006م الموافق 05 ربيع الثاني 1427هـ