خلال سنوات الخمسينات من القرن العشرين الماضي درجت مع أصدقاء مصريين وعلى رأسهم محمد الفياض الطالب معي في كلية الآداب بجامعة القاهرة وهو من منطقة فارس كور من أعمال دمياط على الذهاب مع هؤلاء في كل صيف إلى منطقة رأس البر وكنت ضيفاً على أسرته لأيام عدة في تلك الناحية الخضراء والجميلة. مما يجدر ذكره أن والده يملك مزرعة صغيرة تضم الأبقار والخرفان والماعز ومصنعاً يدوياً للجبن الدمياطي اللذيذ المذاق الذي تضرب به الأمثال، بعد أن امضيت 3 أيام في ضيافتهم ذهبت الى مصيف رأس البر إذ أمضيت أسبوعين فيه هرباً من عناء الدراسة. كنا شلة من الأصدقاء إذ استأجرنا عريشا لكي ننعم بصيف جميل بعيداً عن أجواء الدراسة الجامعية وصخب القاهرة وضوضائها وتلوث أجوائها وقيظها الحار الخانق، وأذكر جيداً في رأس البر هذا كانت عائلة أم زينهم تفتخر بفراخها و بطها، وابنها زينهم هذا به عاهة مستديمة سببها حادث سيارة وأمه عجوز شهربة مثل أم الحليس كما يقول العرب إذ ترضى من اللحم بعظم الرقبة، إنها أم حانية ووديعة وفي غاية الطيبة والأخلاق العالية وتتمتع بالكرم الحاتمي على عكس الشائع عند أهل مصر وعند العرب عموماً من أن أهل دمياط ورشيد ينعتون بالبخل والحرص الشديد على المال وعلى هذه الدنيا الفانية، إذ ان القرائن كما لمسناها هنا تظهر العكس تماماً وان الأمور نسبية، كنا نشاهد أم زينهم هذه تطلق بطها ودجاجها من أسر الأقفاص وضيقها إذ تمشي في صف واحد خلف أم زينهم يتبعن خطواتها الوئيدة. وتقول أم زينهم إن هذه الطيور البريئة خير رفيق لها بل وللعائلة جميعاً صغيرها وكبيرها. أحسست وأنا أراقب اهتمام هذه العائلة ببطها وفراخها الداجنه أنها بمثابة فلذات أكبادها وجزء من كيانها ووجودها تأنس لوجودها وتحزن لفراقها وليست مجرد طيور تعلف وتسمن ثم تذبح وتؤكل أو تباع إنها علاقة عضوية قائمة على المودة ومن الصعب انفصالها، ومن الأمور المألوفة في مدن مصر ولاسيما في الأحياء الشعبية منها رؤية الدواجن والطيور في أقفاصها في شرفات المنازل و«البلكونات»، أما فوق سطوح العمارات فتصبح الظاهرة كبيرة ومخيفة، حقيقة لقد استمتعنا طوال إقامتنا التي امتدت أسبوعين بالبط المحشو بالبصل والبهارات الذي تعده لنا أم زينهم يومياً وأحياناً بسمك البوري السمين واللذيذ أو البياح ما نطلق عليه بالبحرين ، تذكرت أم زينهم وأنا أراقب تطور انتشار انفلونزا الطيور في دول العالم إنه وحش معد تنتقل عدواه من الطيور والدواجن إلى الإنسان إنه فيروس قاتل وهو نوع من الانفلونزا تصيب الإنسان بعد انتقاله من الطيور وساعد على انتشار هذا الوباء هجرة الطيور كالسمان اللذيذة المذاق إذ تقول أم زينهم إنهم ينصبون لها شباكاً واسعة عند مداخل الشواطئ المصرية أثناء قدومها من الديار الأوروبية الباردة إذ تبحث هذه الطيور عن الدفء.
أتذكر منذ سنوات عدة عندما انتشر مرض سارس الذي يصيب الإنسان نتيجة عدوى تنتقل من الحيوان فقد أودى بحياة كثير من الناس في مختلف بقاع العالم ولكن بنسب مختلفة وقد دب الرعب في نفوس الناس جميعاً، وان كثيراً من الناس يبالغون في الاحتياط من هذا المرض وتتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق إذ يتجنبون تناول لحم الدجاج بصورة مبالغ فيها بحجة أن الانسان يصاب بهذا المرض ويدخل في جسمه من دون أن تظهر عليه أعراض المرض كما يتجنبون الذهاب إلى الأسواق والوقوف أمام أقفاص الدجاج وكذلك الحيوانات الأخرى وثبت أن اصابة أي أنسان بهذا الداء من طائر مصاب هو احتمال ضعيف ولابد من اتصال مباشر بين الطائر والإنسان، وفي مصر أخيراً فقد مليون شخص وظائفهم بسبب تردي أسواق الدواجن إلا أن حظائر الخنازير لم تتأثر بهذا المرض وهذا أدى الى إثارة حفيظة أصحاب الدواجن وغضبهم على الآخرين، إلا أنني أعجبت برئيس الوزراء المغربي إدريس جطو حين ظهر أمام الإعلام وهو يتناول قطعة من الدجاج وكذلك فعل الرئيس الفرنسي شيراك وكان الهدف طمأنة المواطنين لمقاومة الانفلونزا نفسياً وعملياً، ولعل أغنية الفنان الشعبي شعبان عبدالرحيم الأخيرة عن انفلونزا الطيور خير سلوى للمكروبين من أصحاب الدواجن لعلها تخفف عنهم آلامهم ومآسيهم، إن الفنان في أغانيه الساخرة يقتل الوقت ولا يعالج المشكلة كما يقول الكثيرون وأنا لا أخفي إعجابي بفنه البسيط والمهضوم بعيداً عن الفن الهادف والهابط
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1336 - الأربعاء 03 مايو 2006م الموافق 04 ربيع الثاني 1427هـ