في ثمانينات القرن الماضي انطلقت موجة تحذيرية في صحافة الغرب تنبه أوروبا والولايات المتحدة من خطر «النمور» الآسيوية. فالصحافة دقت ناقوس الخطر وبدأت المقالات تنهمر لشرح قوة تلك «النمور» وتفسير مكامن مخاطرها على اقتصادات أوروبا وأميركا. وأخذت تلك البحوث والتحليلات تنفخ في سلبيات ذاك الخطر وتضخم قدراته التنافسية وتهديده للاستقرار. وبالغت مقالات كثيرة في عرض وجهات نظرها إلى درجة مرضية. فالبعض وضع المخاطر المتوقعة من اقتصادات «نمور» آسيا في درجة ثالثة تأتي مباشرة بعد الخطرين الشيوعي والإسلامي.
الآن تراجعت تلك الموجة. ويمكن القول إنها اختفت من شاشة الصحافة الغربية. أين أصبحت تلك النمور، وماذا حل بها؟. هذا السؤال ورد في مناسبة زيارة الوزير الماليزي السابق أنور إبراهيم للبحرين. والجواب لابد أن يأخذ ظاهرة «النمور» في سياقها الدولي حتى يمكن فهم أسباب قيامها والعناصر التي أسهمت في اختفاء آثارها.
السرعة التي ظهرت بها «النمور» تعادل السرعة التي تلاشت بها. وهذا قانون فيزيائي. والمعادلة في الفيزياء تعادل تلك الخطوات المتسارعة التي أملت على الولايات المتحدة السماح بنمو ظاهرة «النمور» في ظروف معينة. وحين اضمحلت تلك الظروف سارعت الدول الكبرى في قطع الطريق على نمو «النمور» وإعادتها إلى حجمها الطبيعي: قطط.
ظاهرة «النمور» الآسيوية يجب أن تعاد قراءة عناصر انبعاثها ثم انهيارها في ضوء فضاءات التدويل (العولمة) وحاجة الدول الكبرى إلى مثل هذا «النموذج» لحسابات سياسية وأغراض مؤقتة. فوظائف «النموذج» انتهت حين تبدلت المناخات الدولية وتغيرت إثر انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي.
الظاهرة إذاً لم تكن بسبب ذكاء هذا الوزير أو عبقرية ذاك الرئيس، وإنما كانت في أساسها نتاج حاجة أميركية بعد انتصار ماوتسي تونغ في الصين وفشل الحرب الكورية وأخيراً هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام. هذه الخسائر المتتالية التي امتدت من نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات ثم السبعينات وضعت واشنطن أمام تحديات كبرى، وهي: اما أن تستمر في عنادها العسكري وتعاود الكرة في اختلاق الأزمات وافتعال الحروب، واما أن تعدل سياستها وتبدأ بالانفتاح الاقتصادي على دول جنوب شرق آسيا واختراع «نماذج» ناجحة تستقطب الناس وتتشكل منها طبقة وسطى طموحة تبحث عن الرخاء والرفاهية بديلاً عن تلك الايديولوجية الشيوعية.
الصراع الدولي إذاً فرض شروطه على الولايات المتحدة وأملى على إدارات واشنطن إعادة النظر في سياسات العدوان والاجتياح والقتل. وهكذا كان. فبعد انتصار ماوتسي تونغ لجأت أميركا إلى تغذية اقتصاد تايوان (جزيرة فورموزا) وشجعت الاستثمارات فيها ونقلت تقنيات وصناعات بسيطة إليها وفتحت أمامها السوق الأميركية الضخمة. الأمر نفسه كررته بريطانيا في هونغ كونغ وتحولت المدينة إلى «نموذج» يبهر البصر. كذلك تكررت التجربة في كوريا الجنوبية لغلق الأبواب أمام تجربة كيم ايل سونغ في الشمالية. وفي تايلند جرت الأمور في الاتجاه نفسه. كذلك في الفلبين وإندونيسيا. وأيضاً جرى تعميم التجربة في ماليزيا بعد أن تخوفت بريطانيا من أن تتحول الأقلية الصينية إلى أداة يحركها ماو من بكين. وهكذا أعيد ترتيب علاقات الدول وفق درجات أولى وثانية وثالثة. ففي ماليزيا تم تنظيم انقلاب أدى إلى انفصال سنغافورة. وفي إندونيسيا قام سوهارتو بانقلاب على سوكارنو وارتكب مجزرة ذهب ضحيتها قرابة مليون إنسان. وفي الفلبين دعم النظام العسكري الدكتاتوري، كذلك في كوريا الجنوبية، وتايوان، وتايلند.. وتمت رعاية نظام حكم قوي في ماليزيا.
وتحت سقف أنظمة قوية مستبدة تتراوح بين دكتاتوريات عسكرية أو قبضات حزبية جرت تنمية اقتصادات «النمور» وتطويرها وفق معايير نظرية محكومة بالقوة الأميركية التي انتشرت قواعدها في عشرات النقاط بدءاً من اليابان وصولاً إلى الفلبين وإندونيسيا.
تشكلت ظاهرة «النمور» إذاً بقرار دولي أملته سياسات تناحرية بين قوة ايديولوجية تشجعها بكين وموسكو وقوة اقتصادية ممسوكة من واشنطن ولندن. ونجح النمو التضخمي السريع في إجهاض الحركات الثورية وعطل عليها إمكانات كسب الطبقات الوسطى في دول جنوب شرق آسيا. كذلك أسهمت «الظاهرة» في تشكيل قوى سياسية جديدة تبحث عن موقع ودور تحت المظلة الأميركية. فالنمو المتضخم الذي جاء في سياق «تدويلي» أسس فجوات اجتماعية بين اقتصاد «متقدم» نسبياً وعلاقات سياسية متخلفة (أنظمة عسكرية ودكتاتورية) مراقبة من القواعد الأميركية.
ظاهرة «النمور» إذاً لم تكن خارج الإطار العام للسياسة الدولية. فالنمو المتسارع في قطاع وتخلفه في قطاعات أخرى أعطى فرصة للولايات المتحدة لضرب تلك «النماذج» حين تراجعت وظائفها ولم تعد واشنطن بحاجة إليها... عندما تحطم الاتحاد السوفياتي ومعسكره في مطلع التسعينات.
الآن لم تعد الصحافة في الغرب تتحدث عن تلك «النمور». فالاخبار عن «النماذج» المخيفة والخطيرة أصبحت قصاصات ورق في الارشيف. فالنمور عادت إلى أحجامها ولم تتحول إلى قوة مضاربة أو منافسة تزاحم أميركا وأوروبا على قيادة الاقتصاد العالمي... كما كانت تدعي مقالات مريضة كتبتها أقلام تمهيداً لتحضير الرأي العام لمثل هذا السقوط الكبير.
تجربة «النمور» لابد من إعادة قراءة عناصرها للتعرف على الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تروج لها الصحافة الغربية لمواجهة ما تسميه الخطر الإسلامي... وهو ما تبقى من تلك السلسلة التي تحدث عنها الإعلام الغربي في الثمانينات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1335 - الثلثاء 02 مايو 2006م الموافق 03 ربيع الثاني 1427هـ