إذا كانت اللذة الديونيزية هي الصورة المجازية للمادية السائلة؛ فإن التحالف الجديد بين القومية الشوفينية (لا القومية المتحضرة) والسلفية الغارقة في الانغلاق هي الصورة الحقيقية للاعقلانية العربية التي فتقت ثوابت الذات والموضوع في شئون السياسة والفكر، مرتهنةً في ذلك لدفوع «وهمية» متشكلة من رواسب ماضوية عفى عليها الدهر، بعضها مذهبي وبعضها سياسي. فمن يتابع قراطيسنا العربية هذه الأيام ويقرأ ما تنضح به الأقلام «الصهباوية» المحملة بضغائن الفشل الشخصي تجاه الملفات الملتهبة كالملف النووي الإيراني وحوادث العراق؛ قد لا يجد فارقاً بينها وبين ما تكتبه صحيفتا «هآرتس» أو «يديعوت أحرونوت» الصهيونيتان اللتان باتتا موضع ثقة تلك الأقلام التي انبرت تستقي منها المعلومة والتحليل والنظر والتنبؤ والاحتمال. وهي مفارقة عجيبة تبين حجم البله والحقد الأعمى التي بدأت توغل فيه تلك القوى إرضاءً لنوازع داخلية جاهلية، تراكمت بفعل الإصغاء للحن داكن يشجع على الفوضى والذاتية المفرطة.
فالإعلام الإسرائيلي يعتمد في تحريضه ضد الخصم على تجريد الطرف الآخر من صفاته الإنسانية وتقديمه على أنه الصنو الذي لا يماثله خطر في أية بقعة من العالم، وهو الديدن ذاته الذي يمخر فيه أولئك المثقفون والكتاب، في دفعهم للأمور إلى نهاياتها من دون حساب سعياً منهم لحرق أية مساحة للتفكير والمراجعة. وفي الوقت الذي تتبنى فيه غالبية الصحف الصهيونية المصطلحات والعبارات والتعريفات والأخبار والتصريحات التي تطلقها قيادة الجيش الصهيوني بالنسبة للصراع مع الخصم من دون مناقشتها أو حتى التعليق عليها، فإن هؤلاء الكتاب يرددون الأمر ذاته دونما مناقشة أو مراجعة، وكأنه صدى لهمسات الخنادق.
كيف لنا أن نفهم ما يحدث غير رده إلى عقد التنميط القديم للأفكار التي بنيت إبان أزمات الاستقطاب السياسي والديني الحاد الذي استعر في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي، حتى نظمت قواعده على هكذا مسار، وقد أرد ذلك أيضاً في قبـول بـريء مني لـ «محامل الخير» إلى معرفة حسيرة بالشأن السياسي ومدركاته وتركيب صوره بشكل دقيق يطابق أصل الحدث ونواته، وخصوصاً أننا نعيش في منطقة مترعة بالديناميكية والتشابك اللحظي لقضايا متباينة تتفق حيناً وتتنافر حيناً آخر.
إيران وتشرنوبل
قرأت عجباً من أحدهم وهو يحذر «الأمة» من المؤامرة الإيرانية على القضية الفلسطينية بعد إعلان طهران تقديمها مئة مليون دولار للحكومة الفلسطينية كمساعدة إنسانية، معتبراً ذلك استغلالاً من إيران للأوضاع الصعبة التي تمر بها حكومة «حماس». وهو رأي مؤسف جداً لا يفقه صاحبه إلا استحضار النوايا السيئة وافتراضات معقوصة، ففي الوقت الذي رحبت فيه حكومة «حماس» بتلك الخطوة داعية الدول العربية والإسلامية إلى خطوات مماثلة، نرى مثل تلك الأقلام الوجلى تفتش عن أية مثلبة أو خرافة تأويل تستند إليها في معركتها الوهمية دونما قدرة على تحييد غاياتها الشيطانية. بل إنهم وفي مقابل ذلك لا يستطيعون تفسير المساعدات الأوروبية والأميركية للحكومات الفلسطينية السابقة إلا من باب «الالتزامات الدولية!» فأي حرص هذا الذي تبديه تلك الأقلام تجاه القضية الفلسطينية وهي تحاول في كل مرة تسييس الأمور، وصهر الحقائق في بوتقة التحزب والتمذهب لإبرازها من أبواب خلفية بشكل كيدي ورديء.
ثم قرأت أيضاً ما انتاب تلك الأقلام من فزع مسرحي مرفوض عندما أعلن الرئيس محمود أحمدي نجاد في منتصف شهر إبريل الماضي؛ أن إيران هي ثامن دولة في العالم تكمل دورة الوقود النووي، إذ تداعى البعض من النيئيين والمرعوبين بحبة رمل في هذه الفوضى وبدأوا في الحديث عن تشرنوبل أخرى قد تعصف بالمنطقة مع كل ما تحمله من مشاهد بائسة، من دون أن يكلفوا أنفسهم للحديث بصدق مع الناس من أن انفجار تشرنوبل الذي وقع في 26 أبريل/ نيسان 1986، هو انفجار في محطة نووية لا مجال لمقارنتها بتلك الموجودة في بوشهر، وعلى الجميع أن يعلم هذه الحقائق أن نسبة الإشعاعات التي أصابت المنطقة المحيطة بالمفاعل الروسي «المنفجر» تزيد 200 مرة من الإشعاعات التي نتجت عن القنبلة الذرية التي أسقطت على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين إبان الحرب العالمية الثانية! بالإضافة إلى أن مستوى الإشعاع تجاوز 100 و.ٌّا 1 في بعض الأماكن القريبة من المفاعل، إضافة إلى ان الملفات التابعة لجهاز المخابرات السوفياتي السابق (كي جي بي) والتي أفرج عنها في أوكرانيا لاحقاً أشارت إلى وجود مشكلات في مفاعل تشرنوبل قبل الانفجار، وبينت الوثائق وجود أعطاب في المفاعلين الثالث والرابع وإلى رداءة نوعية بعض المعدات التي أرسلت من شركات يوغوسلافية. كما نشر جهاز الأمن الأوكراني، قبيل الذكرى السابعة عشرة للكارثة وثائق تثبت وجود خروقات لوسائل الأمان أثناء عمليات البناء في الفترة من 1976 إلى 1979.
أما مفاعل بوشهر الإيراني فهو خاضع بالكامل لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يبلغ عدد أعضائها 137 دولة ومجلس محافظين مكون من 35 عضواً وتعمل تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، وهي لم تشر في تقاريرها الفنية أو العلمية ما يفيد وجود أخطار بيئية، حتى أن اتفاقي سعد آباد (2003) وباريس (2004) أخرجا مفاعل بوشهر من عملية التفاوض باعتبار أنه لا يعمل بالماء الثقيل وواقع تحت مراقبة الوكالة الدولية. وحتى التلوث الذي وجد في أجهزة الطرد المركزي الإيرانية كان منشأه خارجيا، لذلك فإن المقارنة بين تشرنوبل وبوشهر مجانبة للحقيقة والواقع، بل سعي للإيقاع ومشحرة للتحريض.
إن عدم قراءة الحوادث بحصافة قد يفضي أتوماتيكياً إلى نتائج مغايرة، وخصوصاً أن ما يمايز ملفات إيران الداخلية والخارجية أنها تسير من تعقيد إلى أعقد في ظل تقاطع المصالح من جهة وبين إفرازات القوة من جهة أخرى، فمثلاً في الوقت الذي تهدد فيه الولايات المتحدة بضربة عسكرية خاطفة ضد إيران؛ نرى أنها تعلن أيضاً عن بدء محادثاتها مع الإيرانيين بشأن العراق! وفي الوقت الذي يبدي فيه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد اندفاعاً ثورياً في التلويح بهزيمة الجيش الأميركي إن حاول ضرب بلاده؛ نرى أن مستشار كبير المفاوضين الإيرانيين للشئون الاقتصادية محمد نهونديان يزور واشنطن بدعوة من علماء أميركيين حسبما أفاد بذلك الشيخ الرفسنجاني! إذاً أين تكمن مساحة الاحتراب ومتى تغيب؟ وكيف نفهم ما تريده كل من واشنطن وطهران من بعضهما بعضاً؟ وهل هما شريكان أم خصمان أم حليفان أم... إلخ؟ وهي الأسئلة ذاتها التي يستبطنها المحللون فضلاً عن تلك الأقلام التي تتلقاها وكأنها لغة اصطفاتية أو حزمة من الطلاسم لتخرج إلى نتيجة متصالحة من ذاتها.
إرهاصات المواجهة
وأثير هنا أمراً قد يـقرب الصورة أكثر، إبان إرهاصات الحرب العالمية الثانية قامت الولايات المتحدة بفرض حصار اقتصادي خانق على اليابان فجمدت الأرصدة اليابانية ومنعت الصادرات والواردات عن و(من) السواحل اليابانية، وفي أتون تلك الأزمة كانت السفارة اليابانية في واشنطن تعمل والسفير الياباني هناك كيشي سابورو نومورا كان يجري محادثات مع وزير الخارجية الأميركي آنذاك كورديل هول.
وفي حادث آخر مماثل، قال ستالين في جواب لمراسل «برافدا»، تعقيباً على خطاب تشرتشل في جامعة فولتن: «إن وضع تشرتشل الآن هو موقف مثير لحمى الحرب، وهو وأصدقاؤه يضاهون هتلر في هذا المضمار، فقد انطلق هتلر في شن الحرب من منطلق النظرية العنصرية مدعياً أن المتحدثين باللغة الألمانية يؤلفون أمة متفوقة، وينطلق تشرتشل في شن الحرب هو الآخر من النظرية العنصرية على أن الأمم المتكلمة باللغة الانجليزية هي قوميات متفوقة مدعوة إلى تقرير مصير العالم كله». وفي مثل قريب رأينا أنه وعلى رغم ما يجري ما بين الصين والولايات المتحدة من حرب اقتصادية مكشوفة تضاهي قعقعة السلاح بعد النزيف الذي أصاب الاقتصاد الأميركي بـ 202 مليار دولار، فإن الرئيس الصيني هو جينتاو زار واشنطن أخيراً واجتمع بالرئيس بوش للمرة الخامسة منذ العام 2001.
ما أود أن أخلص إليه ان الاحتراب الدائر بين الولايات المتحدة وطهران لا يعني التوقف عن القضايا المباشرة وغير المباشرة بالمطلق، وللعلم فإن المصالح الأميركية مازالت تدار في إيران عبر سفارة السويد، وواشنطن مازالت تشتري السجاد والفستق الإيراني عبر سماسرة ووسطاء تجاريين، وان مسئولين إيرانيين يدخلون الولايات المتحدة منذ انتصار الثورة الإسلامية على اعتبار أن نيويورك تحوي المكاتب الأممية الرئيسية للأمم المتحدة، فهذا منطق الدبلوماسية والبروتوكول العالمي والمعاهدات الدولية بين الأقطار. وبالتالي فإن اجتزاء الحوادث وتطويعها لخدمة أغراض أخرى هو أمر لا يخدم أحدا، وهذه الأقلام التي تنتحل «بادعاء» رفعة المواطنة ومقارعة الاستعمار هي في حقيقة الأمر تخدم عدوها من حيث لا تحتسب. فماذا يعنى إذاً أن تصطف مع الرايات المتجاهرة بعدوان عسكري على إيران، وهي تعلم أنها بلد إسلامي مجاور وتربطنا به وشائج سياسية واقتصادية ليس آخرها عزم البحرين شراء الغاز الإيراني كبديل عن الغاز القطري، وكيف تمشي تلك الأقلام مع الماشين في الحملة الدعائية ضدها، وكأن الأعداء الحقيقيين غابوا ولم يعد هناك كيان صهيوني ولا غطرسة أميركية ولا دول محتلة ولا أنظمة دكتاتورية ولا أحزاب عميلة، ولم يعد هناك سوى «النظام الإسلامي» في إيران الذي يهدد الأمن والسلم في المنطقة ويهدد البيئة ويبث سمومه في الدول العربية! إنه فعلاً منطق أعوج آن له أن يستقيم، وأن تعي تلك الأقلام بأن عليها ألا تهرف بما لا تعرف
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1333 - الأحد 30 أبريل 2006م الموافق 01 ربيع الثاني 1427هـ