المزايدة مرض من الأمراض الاجتماعية المعدية والخطيرة، فهو يتجه إلى عقل الإنسان عاملا على إرباكه ومسببا له الإصابة بالحيرة والتردد، والى قلب الإنسان فيمرضه ويؤججه ويفقده الثقة بما هو فيه. ومع أن المزايدة على الآخرين مرض فهي كذلك فن يحتاج إلى محترفين يجيدون دغدغة المشاعر والصراخ العالي، والأهم من ذلك إنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، وكيف يمكن الحفاظ على الاصطفاف الجماهيري والتربع في قلوب الناس بجهد زهيد وغير مكلف، وهو المزيد من الصخب والصراخ والمزايدات فقط. ولأن المزايدات عمل بهذا الجهد القليل وذاك الكسب الجماهيري الكثير، فقد تمكن كثيرون من تخصيبها وتطويعها، ومن ثم الاستفادة منها في كل شأن من شئون الحياة، وكل ناحية من نواحي الجهد البشري.
يحدثنا التاريخ عن أعلى سقف في المزايدة، حين رفع الخوارج شعارهم في وجه خليفة المسلمين الإمام علي بن أبي طالب (ع) وهم ينادون «لا حكم إلا لله»، و«حسبنا كتاب الله». لقد أدرك علي أنها خدعة ومراوغة اتخذت من المزايدة والاحتماء بالقرآن دثارها، وتجلببت بأعز مقدسات المسلمين، فنادى علي في القوم بعد أن انقلبوا عليه بفعل تلك الخديعة، كما ينقل تاريخ الطبري، والبداية والنهاية «ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه، وليس يحل لي ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، ولكني أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون».
الكثير من المزايدين لا يريدون العمل بمزايداتهم، فالعمل بتلك المزايدات كلفته باهظة، ومخاطره جمة، ومجاميع المزايدات لم توطن نفسها في لحظة من اللحظات لدفع هكذا أثمان، أو القيام بهذا النوع من الأعمال.
الهدف الحقيقي هو الكيد والخديعة بالشعارات البراقة والضخمة، وأحيانا تبني بعض الفقاعات لمجرد إشعار الآخرين بالعزة والقوة الكاذبة. تنقل كتب الفكاهة أن أهل قرية تجمعوا أمام غابة قريبة من مساكنهم وهم في خوف وهلع سببهما أن في الغابة أسدين يرعبان القرية ويعرضان أهلها للخطر ولا أحد يستطيع المجازفة بنفسه والإمساك بهما، إلى أن جاءهم رجل وقال: ما أجبنكم أيها القوم أعجزتم عن قتل هذين الأسدين؟ حسنا أنا سآتيكم بهما، فرح الجميع له وصفقوا ورددوا شعارات الفخر والكبرياء، واحتضنه بعضهم تقديرا لشجاعته واستبساله، اختفى صاحبنا في أحراش الغابة، وما هي إلا دقائق حتى عاد راكضا وأحد الأسدين يركض وراءه وهو يصرخ في الناس: «هذا هو الأسد الأول فامسكوا به وسأعود وآتيكم بالأسد الثاني»!
إننا فعلاً في زمن تعمر أسواقه بالمزايدات الوطنية والسياسية والعقدية والمزايدات التي ترتبط بحراك المجتمعات اليومي وتبنيهم لقضاياهم وأحلامهم، ولأن جزءا من صورة الواقع تقوم على الهراء والمزايدة، لذلك أحببت الإشارة إلى أمرين مهمين.
الأمر الأول: هو الحقيقة التالية «المزايدون هم دائما أصفار فيما يزايدون فيه»، و(أأكد فيما يزايدون فيه) إذ ربما لهم نجاحات وانجازات وأعمال ومشروعات لا تسابقها الريح، ومن حقهم أن يذكروا ويمتدحوا بها، لكنهم فيما يزايدون فيه أصفار، ذلك أن إنجازاتهم أكثر من متواضعة بل هي مفلسة (غالبا) في الموضوع الذي يزايدون فيه. من المهم أن نتأمل لنعرف أن المزايدين في المواضيع السياسية مثلا على العاملين سياسيا والمنشغلين بهذا الهم هم أصفار في طرحهم وتبنيهم السياسي، وإن كان لهم ما يجلّ ويوقّر في جوانب أخرى ثقافية وعلمية واجتماعية، والمزايدون في الشأن الديني والمذهبي هم أصفار في التحديات العقدية، فهم حين التحديات الصارخة يجفلون ويختفون ويتوارون عن الأعين، دون أن تدفعهم الغيرة على العقيدة، والخوف على المبادئ، وحراسة القيم للمبادرة والنصرة لعقيدتهم من الأخطار التي تحدق بها، هنا تلمح عيناك غيرهم من ينافح عن الدين والعقيدة وينتج في صمته من الكتب والدراسات والمراكز والمواقف ما يعلو على صخب هؤلاء وضجيجهم.
لن يخفى على المتابع لحراك المجتمع أن الصوت العالي هو رأس المال الوحيد الذي يملكه المزايدون، وهو الذي يبوؤهم زورا موقع الدفاع عن الدين والعقيدة، أما الواقع فهم - سامحهم الله - أصفار في المؤلفات وأصفار في الكتب، وأصفار في توضيح العقائد وبيانها، وأصفار في أي إنتاج يعد دفاعا حقيقيا عن الدين والعقيدة.
نعم، تحتفظ لهم سجلات التاريخ بالتهويلات والتضخيمات والقنابل الزلزالية التي يطلقونها بين الفينة والأخرى ليلفتوا أنظار المجتمع أنهم مازالوا على قيد الحياة، يتنفسون من أحاسيسه ومشاعره، ويقتاتون على حساب عواطفه ومقدساته. وتحتفظ لهم الملفات الصفراء بالتنكيت والسخرية من جهود الآخرين، و(الاستخراط) بأعمالهم ويومياتهم، ويدرك المنصفون أنهم يمارسون ذلك كله دفاعا عن تقاعس الذات وقصور الرؤية وضياع الطريق والمراوحة في المكان الواحد، وأوضح دليل على ذلك أنهم لا ينشغلون في المجالس العامة والخاصة بالحديث عن مشروعاتهم وأعمالهم وإنجازاتهم، بل يتشاغلون ويشغلون الناس بالاستهزاء والتهريج والتهكم على الآخرين.
والأمر الثاني: هو أن المزايد يظلم ويكذب ويضلل المجتمع والناس من حوله، ولا يصدق القول معهم، فهو لكي يزايد على الآخرين يُحقّر كل جهد آخر، ويستخف بكل عمل لا ينسب له، لا يتحدث إلا عن إخفاقات الآخرين (كما يراها) أما انتصاراتهم وعملهم الدؤوب وانجازاتهم فلا يوليها عنايته ولا يراها تستحق الالتفات. وهذا لعمري عين التضليل والتدليس على المجتمع، لأن صاحب هذا الدور ينظر بعين واحدة ويعمد قاصدا ليفقأ عيون الناس حتى لا يرون إلا ما يرى. ليس عندي ما أزايد به على أحد، فكل أهل ديني وملتي خير مني (إن شاء الله)، لكن أود أن أدعو المقتدرين من كتاب وعلماء ومثقفين إلى كشف الزيف وتعرية ثقافة المزايدة والإجهاز على هذا الدور السلبي والمرض الخطير
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1333 - الأحد 30 أبريل 2006م الموافق 01 ربيع الثاني 1427هـ