سأسرد لكم هذه القصة. في منتصف التسعينيات، أعدَمَ صدام حسين عددًا من العراقيين بِتهَمٍ أمنية مختلفة، ثم ثبَّتَ جثثهم على جسر مُعلـَّق للعِبرة. والدة أحد الذين نفـِّذ فيهم حكم الإعدام، اشتعلت عندها حرارة الأمومة، والنفِير العشائري العراقي، فربطت عصابة على جبينها، وجَمَعَت أبناءها الباقِين، وعَيَّرتهم بقلة الشهامة والضعف والهوان لعدم قيامهم بأخذ الثأر لأخيهم. ثم أعلنت أنها لن تفكَّ العصابة إلا بعد أن تأخذ الثأر لابنها.
أعدَّ الأبناء لعملية انتقامية لأخيهم. وفي الرابع عشر من شهر يناير/ كانون الأول 1996م أقدموا على تعقب عدي صدام حسين، حتى ظفِروا به في شارع المنصور، فبادروه بإطلاق خمسين رصاصة من سلاح كلاشينكوف على سيارته، فأصيب بـ 15 طلقة، وأربعين شظية، حيث اخترقت إحداها صدره من جهة اليسار، بعشرة سنتيمترات أسفل الإبط، ومرت بالقرب من القلب لتخترق الرئة وتشق المعدة. كما أصيب بثقب في أعلى الساق اليسرى، وعدة ثقوب غائرة في الفخذ والساق اليمنى. انتهى المشهد. حسناً، لنترك هذه القصة ونعود لها لاحقاً.
قبل بضعة أيام وبالتحديد في 18 أغسطس/ آب 2011، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية، أن نائب رئيس الوزراء العراقي السابق طارق عزيز (75 عامًا)، قد وجَّه دعوة إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يطالبه فيها بتنفيذ حكم الإعدام به في أسرع وقت. ولأن عزيز مُصابٌ بورم في الصَّدر، وبالبروستاتا، وبداء السكري، وارتفاع في ضغط الدم، ومشاكل في ضربات القلب، والتهاب في الجيوب الأنفيَّة، وقرحة في المعدة، فإنه قدَّم ذلك الطلب عبر محاميه بديع عارف، وألحَّ عليه بقوة، ليضع نهاية لحياته المعلقة ما بين السجن والمرض.
هنا، حديث لازم. ففي مثل هذه الأحوال، التي يكون فيها الوَهن والانكسار والكهولة هي جوهر المشهد فلا مجال للتباهي بالقدرة والغلبة. لستُ مُتطفلاً على جراح العراقيين، ولا أبخس دَم شهيد منهم ممن قضوا ظلمًا طيلة أربعين عامًا، لكنني أشاهِد واقعًا. ما الذي يُمكن أن يفعله المرء المقتدر عندما يقف بكل قوة وتباهٍ، ليضع رجله على رقبة شخص لا يقوى على الكلام فضلاً عن الحركة، أو أن عمره أزِفَ، ولم يعد لديه من الأيام سوى ما يعدها ببطء لكي تنصرف عنه. إنه مشهد لا يُعبِّر إلا عن صيغة واحدة: المنطق الصرف دمار للروح.
فليسمعني العراقيون، وهم أعزاء علينا جميعًا. لن تكسبوا شيئاً وأنتم تسرفون في دماء هؤلاء. حتى ولو كانوا ينتمون إلى نظام دموي. هم أصحاب حقبة مضت وطويَت منذ ثمانية أعوام، وقبضَ على الأخطر منهم ضمن قائمة طويلة، وتم إعدام العديد من قياداتها، وتصفية مئات آخرين من أربابها، من ضباط، وأطباء، وطيَّارين، وعلماء خارج المحاكمات حتى. وأنتم اليوم تتسيَّدون على الحكم. فإذا كان أولئك النفر قد بَطروا في حكمهم فلا تحتاجون أنتم إلى الفعل ذاته لكي لا تنالوا النعت نفسه، إن كان حكمكم ديمقراطياً كما تقولون.
كل التغييرات التي تجري في البُلدان، سواء عبر الثورات أو الانقلابات لا يُمكن أن يكون هدفها فقط تهييج حس الانتقام. بالتأكيد، ليست تلك سذاجة عربية أو نسياناً للأرواح التي أزهِقت، ولكن هدف التغيير هو التغيير ذاته، وليس الانكباب على جلد مرحلة انصرفت، وانصرف معها أصحابها. نعم، يُمكن محاسبتها عبر تطبيق ما يُغايرها من سلوك سياسي ديمقراطي في أنظمة الحكم والقضاء لكي يظهر الفرق بين الحقبتين. سيمون خوريه بوليفار مؤسِّس ومُحرِّر كولومبيا الكبرى والشخصية اللاتينية الأولى ترك رجل الحقبة الرجعية سان مارتن ليعيش ما تبقى له من عمره في بولون سورمير، من دون أن يقوم بصلبه على مقصلة الموت.
نضرب مثلاً من التاريخ. ماذا عن دموية النازية؟ التي أشعلت الحرب العالمية الثانية وكلفت العالم أكثر من 70 مليون قتيل ما بين مدني وعسكري، وملايين مُضاعفة من الجرحى. وماذا عن جَوْر محكمة نورنبيرغ؟ لقد كانت بعض المحاكمات فيها جديرة بالنظر. وزير هتلر في الاقتصاد فالتر فونك، حكم عليه بالسجن مدى الحياة ثم أفرج عنه لأسباب صحية. جوستاف غروب الذي سلـَّح ألمانيا من شركة زوجته في الحديد والصلب، اعتبر غير صالح للمحاكمة بسبب وضعه الصحي. كونستنتين فون نورات الذي عَمِل وزيرًا للخارجية أفرج عنه لأسباب صحية. الجنرال إريش رايدر الذي أذاق الحلفاء مرارة المعارك البحرية أفرج عنه لأسباب صحية. هذه تجارب من التاريخ، الذي نحن من أحداثه نتقوَّم.
أمام كل ذلك العرض، ربما الآن أستطيع أن أستحضر القصة التي استهللت بها المقال لأضع نفسي موضع تلك الأم مثلما سيقول لي البعض: لو كنتَ مكانها تحمل حرقة القلب لما قلت شيئاً عن العفو! حسناً، ربما أكون كذلك وأكثر، وإنني لأتعاطف معها، لكنني أتحدث عن مبدأ عام. أتحدث عن أقصى درجات القوة، في قِبال أقصى درجات الضعف. لا مجال للمقارنة بينهما أبدًا. إنني أستحضر الآن نماذج غير قليلة لعراقيين ثكلوا بسبب نظام البعث، وشُرِّد ذووهم، أو قتلتهم محاكم الثورة في بغداد، لكن دنيا الاحتلال وما أعقبه من حياة مروعة طيلة السنوات التي أعقبته جعلتهم ينسون تلك الحقبة، بل ويترحَّم عليها بعضهم. هذا ليس تنظيرًا، بل هو واقع شهدته وتابعته كمراقب من دون رتوش.
لكنني أيضًا وقبل أن أضع نقطة الختام أقول: أمام هذا الشعور الإنساني الذي أنا بصدده أتساءل: كيف يُمكن لآحاد الناس مثلي ومثل غيري أن يُفكروا بعطف على مَنْ ظلموا شعوبهم، أو على مَنْ ضربوا أمثلة قاسية في الظلم أمامهم، في حين يستكبر الحكام المستبدون أمام رعيتهم، ليُمارسوا بحقهم صنوف التعذيب، والقتل، والاحتجاز، والأحكام القاسية دون أن يرمش لهم طرف؟ على رغم أنهم الأولى بأن يكونوا ذوي سعة في الصدر إذا ما أرادوا إمساك آلة الرئاسة براحة بال! إنه حقاً تساؤل مشروع يحتاج إلى إجابة.
كان الأديب والكاتب المسرحي والشاعر الإنجليزي وليم شكسبير يقول: الشفقة جوهر القانون، ولا يَستخدِم القانون بقسوة إلا الطغاة. وقد صَدق الرجل فيما قاله
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3274 - الأربعاء 24 أغسطس 2011م الموافق 24 رمضان 1432هـ
فعلا الشفق...
فعلا الشفق...كما الكاتب المحترم يجب أن تكون محور القانون-ولكن كيف يصنف التسريح والتهميش لطائفة معينة في القوانين المدنية!!!.الدنيا لمن يحب ويبغض والاخرة لمن يحب"
باختصار شديد
لأننا لا نمتلك أمثلة فلا بد ان نحتاج لمن هم قدوة
سؤال ؟؟
هل القيم الأنسانيه موجوده عند الأروبيين ؟ لماذا كل الأمثله مقتبسه من تاريخ اوربا و نحن لنا قوانيننا ... العين بالعين ......... .