العدد 3274 - الأربعاء 24 أغسطس 2011م الموافق 24 رمضان 1432هـ

الهوية وهندسة الإقصاء

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

«ما من مفهوم مربك ومضن مثل مفهوم الهوية « مفتتح يبدأ به فالح عبدالجبار مقالته «أن تكون بهوية أو لا تكون» كتبها بالانجليزية ونشرت مترجمة إلى الفرنسية في مجلة «مشرق - مغرب» في عددها الصادر في ربيع العام 1999 الخاص بـ «أزمة الهوية».

مفهوم الهوية مربك في السويد، النرويج، الدنمارك، وغيرها من الدول؛ على رغم سقف الحقوق العالي الذي تمنحه لمواطنيها؛ بغض النظر عن الجهات والأديان واللغات والمشارب التي ينتمون إليها؛ إلا أنها تظل مربكة ومضنية وشاقة إلى أبعد الحدود.

في دولنا وعالمنا يتعمق ذلك الإرباك؛ بل يكاد يمر بطور الشقاء وما بعده بمراحل. يتضاعف من حيث لا حقوق يمكن التفاخر بها أمام قطيع من القردة، من خلال اللا اعتراف بالحقوق وسقوفها.

ولدنا في مجتمعات لا نعاني فيها من برازخ على مستوى اللغة والاعتقاد والمشارب والعادات والتقاليد والتاريخ والدم والامتداد؛ لكن ما يلغي كل ذلك - أو على الأقل تهميشه وتأجليه ولن نقول محوه - أن منظومة الحقوق ممعنة في غيابها، ومكنة القمع والمصادرة والتمييز حاضرة في كل ذرة من تفاصيل تلك الحياة/الموت. هي مصيبة هوية أكثر منها أزمة هوية. أزمة هوية انتماء لمكان طارد لك، ولا متر من حق لك فيه، ويصب عليك أكثر من لعنة وجحيم تمييز بدل النعم وحقوق المواطنة، وتؤخذ بالشبهة والظنة. لا معنى لك ولا ضير أن تكون «مكللاً» برقم في الإحصاء السكاني، ويراد لك بمنظومة من الخنق والتضييقات أن تبرح مكانك في ترحيل غير مباشر عن أرضك الأم تاريخاً ومعنى وقيمة وامتداداً وتجذراً وأصالة؛ دفعاً بك وإرغاماً للبحث عن هوية أخرى تقبلك كما أنت من دون تدقيق في شجرة دمك أو عائلتك أو مذهبك أو طائفتك أو حتى سجلك وتاريخك الصحي!

أزمة الهوية لا تنشأ في الأمكنة الطارئة التي وفدت عليها مضطراً بحثاً عن حياة كريمة وقيمة مفتقدة لإنسانيتك ومعنى مذوب ومغيب ومصادر. يمكن لأزمة الهوية وتبعاتها أن تنشأ في مكانك الأول ومكان أجدادك وأجداد أجدادك حين يتم إسقاطك من سجل الحقوق الضامر والعظمي. سجل حقوق حتى في القشر منه إذا انتابك حضور فيه يتوقف على أن تكون محدداً ضمن نظرية نشأت في الأزمات والانفعالات الكبرى: أن تكون مع/ضد. نظرية انفعال ومزاج لن يترتب عليها استقرار حتى للأشياء عدا البشر. نظرية تكشف عن خلل المفهوم في الدولة قبل الخلل في التعاطي والنظر إلى الهوية. ثمة استثناء للهاربين من هوياتهم ولا يلتقون معك في اللغة والاعتقاد والمشارب والعادات والتقاليد والتاريخ والدم والامتداد لكنهم ضمن نظرية ومزاج: مع/ضد يصبحون في اللب من الهوية الاصطناعية والمفرغة من قيمتها. دولنا لا تهمها معضلة وأمراض التوحد بالهوية. دولنا تريد أتباعاً يمكن تحويلهم إلى أصول - كأي أصول ثابتة للشركات - تعرضهم للبيع أو تعمد إلى شرائهم بحسب مؤشرات سوقها.

الأرض التي وجدت نفسك أحد أبنهائها تمنحك هوية المكان في صورتها الأولى. للهويات أكثر من قشرة، تماماً كما قشرة الأرض نفسها التي وجدت نفسك أحد أبنائها والضاربين في شروشها.

ذلك ملمح أول ومهم للهوية المتلاعب بها؛ لكن الأهم هو ما يرسخ ويؤكد ويحترم ذلك الابتداء بمنظومة حقوق تعمل عملها على تعميق تلك الهوية والانتماء بإدخالك في تفاصيلها بدءاً بحقك في الاحتجاج على تلوث البيئة وليس انتهاء بفضح اللصوص الذين يسرقون قوتك وقوت عيالك لتركك في الطرف الخادع والقشري والقسري من تلك الحقوق.

الهويات وتعميق قيمتها وحضورها وثقلها وتأثيرها امتداداً وارتباطاً لا تحددها مكاتب الإحصاء واستخراج بطاقات الهوية أو ما يدل على هيئة وتفاصيل تلك الهيئة. الهويات مثلها مثل الكرامة والحق والواجب من ثوابت الدول التي تحترم قيمة حضورها كي تستطيع احترام قيمة مواطنيها. إذا اختفى شيء منها تظل مجرد رقم في بطاقة لا تكلف واضعها قيمة وجبة سريعة في مطعم عابر للقارات!

بالممارسات التي تهندسها دولنا المصرة على أنها معصومة عن الأخطاء عبر إعلامها الفلتة وإعلامييها الخارقين للعادة، في محاولات بائسة لضرب المكونات؛ تعمل على إرجاع قيمة الاتصال الجماعي إلى سيرتها الأولى حيث التوحش والانعزال والترقب والتوجس والتحفز للانقضاض. كل تفاصيل البيئة التي ولدتها المنظومات السياسية في دولنا لا تهيء لإقامة مجتمعات متجانسة بالمفهوم السائد والحقيقي - وفق مصلحتها - بقدر ما تهيئ إلى تغييب الهويات وإرباكها وتفتيتها وتركها أمام خيارات وجودية: أن تكون أو لا تكون. أن تكون في حدودها بالحقوق الرئيسة والمكتسبة؛ أو خارج حدودها بعد نفاذ تحملها للاستهداف ومعالجات التهميش وهندسة الإقصاء. الصدمة لها: أن ذلك لن يحدث

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 3274 - الأربعاء 24 أغسطس 2011م الموافق 24 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 5:37 م

      أن ذلك لن يحدث..

      أن ذلك لن يحدث..-مختصر جدا مفيد لمن لا يعتبر ومن لا يود ان يقرأ التاريخ بإمعان-ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين!!!.

    • البوحمود | 12:30 م

      الوطن البوحمود

      الدين للة والوطن للجميع

    • زائر 5 | 8:06 ص

      هدي اعصابج

      مقال يثير تساؤل .. هل قطعة من القماش تلف حول الراس يجب ان تحدد هويتي وانتمائي؟
      قطعة من القماش تلف حول الراس يجب ان تحدد كيفية تعاملي مع وطني؟
      بلادي وان جارت علي عزيزة .. واهلي وان ضنوا علي كرام

    • زائر 4 | 7:45 ص

      رائع

      ما اروع ما تكتبينه اختي سوسن
      هنيئا للوسط بك

    • زائر 3 | 7:32 ص

      هندسة الإقصاء

      هندسة الإقصاء التي تتبعها دولنا موغلة في الإقصاء بما يؤدي إلى إقصاء الهوية وضياعها وما تقوم بها دولنا من إقصاء يتبعه احتلال للهوية الأصلية التي لاتعمر البلاد بل تضر بالبلاد والعباد على المدى البعيد وأول المتضررين من عملوا به والتاريخ شاهد على كل ذلك

    • زائر 1 | 4:26 ص

      طوبى

      طوبى لمن صنع هويته بنفسه .. مقال رائع بوركت

اقرأ ايضاً