الإرهاب لا وطن له؛ لكن الطغيان له أوطان. للطغيان أوطان باتت معروفة على الخريطة بعد كل هذه التحولات والمتغيرات التي شهدها العالم؛ وخصوصاً في حقبتين مهمتين في التاريخ الحديث، حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحقبة سقوط المعسكر الاشتراكي بعد تفكك منظومة الدول في أوروبا الشرقية ببداية إرهاصاتها أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وانتهاء الحرب الباردة في تسعينيات القرن نفسه.
تم تحييد أو إنهاء الطغيان في جزء من خريطة العالم؛ لكنه ظل ماثلاً ومتطاولاً ومتطوراً وإن بأشكال مختلفة ومسميات تبعث على السخرية في جزء آخر من تلك الخريطة؛ في تداول وتوارث وتكريس له وكأنه وصفة للحياة العامة لشعوبها لن تنجو وتبلغ مراميها إلا بتلك الوصفة!
صحيح أن الإرهاب لا وطن له؛ لكن جزءاً كبيراً من مسببات ومحفزات ومهيجات وتطاول ذلك الإرهاب مبعثه الطغيان. لكأن الطغيان أتاح للإرهاب أوطاناً يتمدد فيها كلما تمدد الطغيان نفسه. هو المغذي الرئيس والمهم له والشريان الذي يمده بأسباب بقائه وتبرير ذلك البقاء؛ إضافة إلى مغذيات أخرى لا مجال هنا لحصرها.
الإرهاب يصدر كائناته المفخخة إلى خارج الحدود حين يضيق عليه الخناق. يمكن له أن يرتع في بيئات أخرى أقل رصداً وخارج الحدود، تحت عناوين الانتقام والرد بأكثر من صاع بدل الصاع، وكلها تبريرات عفنة صادرة عن نفوس أعفن. والأكثر عفونة منها ذلك الذي أتاح لها تبريراً لقيامها واقتحام المتبقي من طمأنينة العالم النادرة.
وبالعودة إلى متلازمة الإرهاب والطغيان، لا دولة في العالم بات فيها الطغيان منهجاً وسلوكاً وعقيدة؛ سيتسنى لها أن تكون ذات تأثير في حركة العالم وحركة شعوبها. على العكس، هي تهديد أول ورئيس لكل محصلات الإضافة في حركة العالم والوجود عموماً. إنها التهديد العملي لكل محاولات العالم في استرداد شيء من الاستقرار الذي فقده طوال أكثر من ثلاثة عقود تحديداً تأزمت فيها علاقة الفرد مع الدولة في جغرافيتنا والدولة مع النظم والتشريعات الدولية التي كانت شاهدة على اشتراطاتها ومواثيقها باحترام قيمة الإنسان وحزمة الحقوق التي لا يمكن القفز عليها تحت أي مسمى أو تبرير. إنها محاولة لإرجاعه إلى زمن الفوضى تحت مسمياتها الخادعة والماكرة، مرة باسم الفوضى الخلاقة، ومرة غير الخلاقة عبر صناعة الاحتراب الداخلي، وإيقاظ الفتن، وإشعال حروب الإثنيات والطوائف كلما أطل خطر برأسه يهدد وجودها ومكتسباتها؛ فيما مكنة الإعلام تغذي كل ذلك بكرم هو في حقيقته سفه، ورجولة لا تتبدى ولا تتضح إلا أمام المياكرفون والكاميرا!
في التاريخ وقفات لمهندسي الطغيان في حضارتنا البائدة والبائسة في جانب منها، يبدو فيها شيء من المراجعة وإن جاءت بحسب الموقف والمزاج؛ بغض النظر عن كونها موضوعة أو مختلقة أو حدثت فعلاً. في هذا العصر، المراجعات تكاد تكون ضعفاً وتنال من هيبة الطغيان نفسه وربما تهدد سطوته ومدى الرعب الذي وصل إليه وبلغه.
لما وَلِي الحجاج بن يوسف قال: عليَّ بالمرأة الحرورية - من الخوارج - فلما حضرت قال لها أنت بالأمس في وقعة ابن الزبير تحرضين الناس على قتل رجالي ونهب أموالي. قالت: قد كان ذلك. فالتفت الحجاج إلى وزرائه وقال لهم: ما ترون فيها؟ قالوا: عجل قتلها. فضحكت فاغتاظ لذلك وقال لها: ما أضحكك؟ قالت: إن وزراء فرعون كانوا خيراً من وزرائك هؤلاء. فالتفت إليهم الحجاج فرآهم خجلوا. فقال لها: كيف ذلك؟ قالت: لأنه لما استشارهم في قتل موسى «قالوا: أرجه وأخاه» (الأعراف: 111)، يعني أنظِره إلى وقت آخر، وهؤلاء يسألونك تعجيل قتلي.
بقي القول، لا يمكن أن نتغاضى عن حقيقة أن الطغيان نفسه في اللب من الإرهاب، وصانع له؛ بل هو ساهر ومثبت وممارس له على الأرض؛ عبر منظومة من الفوضى في القيم واللارؤى وانعدام الحس وشهوة الامتلاك وغريزة البقاء ولو تحول العالم من حولها إلى أثر بعد عين
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3274 - الأربعاء 24 أغسطس 2011م الموافق 24 رمضان 1432هـ
بطنانة البوحمود
بطانة سوء