العدد 3272 - الإثنين 22 أغسطس 2011م الموافق 22 رمضان 1432هـ

المفارقات في رواية «شرفة رجل الثلج» لإبراهيم نصر الله (1 - 2)

موسى أبورياش comments [at] alwasatnews.com

.

تغري رواية «شرفة رجل الثلج» لإبراهيم نصر الله بالغوص تحت طبقات الثلج، للصيد واقتناص الطرائد الثمينة، وعدم الرضى بالبقاء على الشرفة، والاكتفاء بالمراقبة أو النظرة الشاردة!

ومما يلفت الانتباه في هذه الرواية كمُّ المفارقات الكبير، الذي يكاد يحولها إلى رواية المفارقات بامتياز، إن نظرنا إليها من هذه الزاوية. والأمثلة على ذلك كثيرة:

ذات مساء، يسمع بهجت صوت المفرقعات النارية، ثم يراها تملأ الفضاء، فيتساءل عن سبب إطلاق الألعاب النارية، يبحث في الصحف فلا يجد أي سبب يكون قد فاته أو لم يسمع به: «حاول أن يتذكر ما إذا كانت هناك أحداث كبرى قد حصلت في ذلك اليوم نفسه، تكون هي السبب الفعلي. استرجع ما سمعه من أخبار، لم يتذكر سوى أخبار عن مقتل عشرين فلسطينيّاً في نابلس، وغارة أميركية أسفرت عن قتل أربعين عراقيّاً في الموصل»(23)، فنحن شعوب ترقص على جراحاتها ومصائبها وهزائمها، ولا يراعي أحد مشاعر أحد، وهذه يمكن أن نلمسها في أحيائنا حيث نجد الأعراس غير بعيدة عن بيت العزاء!

أم بهجت المعروفة في الحي بلقب «رويتر» عزَّ عليها ألا تتوصل إلى أي سر من أسرار جارتها رشيدة «هنالك سر ما، وكان عليها أن تفعل أي شيء لكي تعرفه». (41) ولم تجد وسيله إلا أن تتمارض، وكان أن استجابت للتمارض فظهرت عليها أعراض المرض، وعندما يسألها ابنها: «هل يستحق هذا الأمر التضحية بصحتك؟(76)، تؤكد: «وسأضحي بحياتي إذا لزم الأمر، لِئلا يُقال إن «رويتر» فشلت في معرفة هذا السر!»(76) مما أدى في النهاية إلى موتها، من دون أن تعرف السر، لأن الفضول داء معيب قد يقتل صاحبه!

يراجع بهجت دائرة المخابرات ثلاثة أيام بناء على طلبهم، وفي كل مرة يجد نفسه وجهاً لوجه مع رئيسه في العمل، الذي يؤكد له مبتسماً أنه جاء «لتناول فنجان قهوة لا غير!»(57). حينها :»راح بهجت يستعيد الحكايات التي عرفها، والتي سمعها، عن عبداللطيف، وعندها أيقن أنه كان طوال الوقت يغفو ورأسه على فوهة بركان».(57)، فالرئيس في العادة درع وحماية، ولكنه هنا أس البلاء، ومكمن الداء!

عندما يرى بهجت ملفه في دائرة المخابرات، يصعقه حجمه الكبير: «كان الملف كبيراً، إلى حد أن بهجت أصبح على يقين من أنه ملف غير حقيقي، فلو قاموا بتسجيل كل حركة، وكل قول، وكل إشارة صدرت عنه، وكل حلم رآه، وكل أسئلة الامتحانات المدرسية التي أجاب عنها في حياته، ولو جمعوا شهادات ميلاد أفراد الأسرة، وصور وثائقها، وصورة وثيقة زواجه، وكل ما جاء به من أخبار للصحيفة خلال فترة عمله، لما كان له ملف بهذا الحجم. أراحه هذا التفكير المنطقي، وأزعجه أيضاً (ماذا لو كان الملف حقيقيّاً؟)»(58) والمفارقة هنا ليست فقط في حجم الملف الكبير الذي لا يصدق مهما كانت المبررات، ولكن في أن بهجت يتساءل: «ماذا لو كان الملف حقيقيّاً؟» فقد أصبح الإنسان يعيش في دوامة ووضع بائس، قد يكذب نفسه ويشك فيها، لكنه لن يكذب بالتأكيد العالمين ببواطن الأمور، فالأجهزة أدرى بنا من أنفسنا!

وتأتي المفارقة التراجيدية، التي يوضحها هذا الحوار بين بهجت والمحقق:

«- اسم ابنك فريد؛ أليس كذلك؟

استدار بهجت، وقد تجمد: نعم. فريد. سيدي.

وعندها لوح له المحقق بملف أزرق صغير وهو يقول له: لعلمك! هذا ملف فريد.

تجمد بهجت مكانه. «ما بك؟» سأله المحقق.

- لا شيء سيدي.

- امرأتك حامل كما علمت؟!

- نعم سيدي.

- ولد أم بنت؟

- الطبيبة قالت إنه ولد.

- وماذا ستسميه؟

- حليم. سيدي.

- حليم؟ تقصد عبدالحليم؟ تريد أن تجمع في عائلتك المطربَيْن اللذَيْن كانا متناحرَين على الدَّوام، فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ إذن؟!

- نعم سيدي، ولكننا سندلِّعه ونناديه «حليم».

- هكذا إذن، ونحن سندلِّعه ونناديه «عبد»!!

وامتدت يد المحقق إلى درج في الطاولة وأخرج ملفّاً أزرق كتب عليه بضع كلمات، وقال: خلاص. لقد فتحنا لِـ «عبد» ملفاً»(59-60)، فالملفات جاهزة لكل مواطن، وحتى للأجنة في البطون، فالمواطن متهم حتى تثبت براءته!

وعندما يخرج بهجت من دائرة المخابرات، يبحث عن سيارته بعينين زائغتين، من دون أن يفلح في تذكر أين أوقف سيارته، وعندما يصرخ به الحارس ليبتعد، ينصاع وعندها: «تذكر أن السيارة في مكانها، أمام البيت»(61)، فالذهول الناتج عن الخوف والرعب يفقده البدهيات. بل إن بهجت بعد خروجه يستقل سيارة أجرة، ويحس بالاختناق الشديد: «لم يعرف ما إذا كان هذا الإحساس يعود إلى أنه تزوج، أم لأنه أنجب، أم لأنه عمل في الصحافة، أم لأن حظه كان جيداً فكانت الصين من نصيبه، أم لأن درجة الحرارة لم تعد تطاق بسبب تغيرات المناخ الذي ظل يتابع أخبارها ويشك فيها!»(61)، ولم يجرؤ أن يحدث نفسه عن سبب الاختناق الحقيقي.

ومن مفارقات السخرية المرة، أن يطلب السيد غنام من عبداللطيف أن يقوم باستقبال وفد من الشعراء العرب المشاركين في مهرجان كبير احتضنته العاصمة، متجاوزاً كل أولئك الذين هم أعلى منه منصباً، مثل: نائب رئيس التحرير، مدير التحرير، سكرتير التحرير، رئيس القسم الدولي، ورئيس القسم الثقافي. بل ويطلب منه أن يحدثهم عن الثقافة والشعر، وهو عامل الكافتيريا الذي رقِّي إلى محرر. «قال له السيد غنام: بلا شعراء بلا بطيخ! لست بمزاج جيد لكي أستقبل كل هؤلاء العصافير في وقت واحد. استقبلهم أنت.

- وما الذي أقوله لهم؟

- حدثهم عن أهمية الشعر والثقافة في حضارات الأمم! وأكد لهم أن أمة بلا ثقافة هي أمة ميتة. ويمكن أن تداعبهم قليلاً فتقول لهم: وليس هناك أمة أثبتت أنها حية مثل أمتنا والحمد لله. لماذا؟ لأنكم، كشعراء، ومنذ الجاهلية، كنتم دليل حياتها»(64)

وعندما يصبح عبداللطيف رئيساً للتحرير، وهو لا يمتلك القدرات والإمكانات التي تؤهله لهذا المنصب، شعر بالحرج والقلق لأنه لا يستطيع الكتابة: «إلى أن أسرَّ له أحد مديري التحرير أن هناك من يكتب المقالات باسم رؤساء التحرير في غالبية الأحيان. فاستغل عبداللطيف الفرصة، وأوكل إلى مدير التحرير، ذاك، هذه المهمة، ولم يكن يفعل شيئاً سوى قراءة المقال للاطمئنان. وحين اطمأن تماماً لأسلوب كاتب مقالاته، لم يعد يقرأها إلا مع قهوة الصباح في اليوم التالي. وفي أحيان كثيرة كانت تسمعه يصيح بفرح: «عبقري، عبقري»، فتسأله: «مَنْ؟»، فيناولها الصحيفة كي تقرأ مقالته!»(68)، فعبداللطيف عين رئيساً للتحرير وهو لا يملك أية مؤهلات، ويكتب له مدير التحرير مقالاته فيصدق أنها له لمجرد تذييلها باسمه!

وعندما يتساءل عبداللطيف عن العلاقة بين رئيس التحرير وعامل البوفيه، يهتدي إلى مفارقة عجيبة، مفارقة برغماتية لعينة: «كلها خدمات، وكلها مطلوبة، وأن أهمية المرء لا تكمن في ما يعمله، بل في مَنْ يخدمه». (68)

ويقرأ بهجت في دراسة رسمية أن: «نصيب البقرة من دعم الأعلاف يفوق حصة الفرد من المعونة الوطنية عشرين ضعفاً في العام». (74)، في دلالة ساخرة ومبكية في آن واحد، على قيمة الإنسان ومكانته!

كان بهجت يحلم لسنوات طويلة أن يصل إلى الصفحة الأولى، وأن يكتب مقالة أو يأتي بخبر ينشر باسمه على صدر الصفحة الأولى أسوة بكثير ممن جاءوا بعده، وأخيراً تتحقق أمنيته مرتين تباعاً: المرة الأولى عندما يحصل على خبر حصري بتنفيذ حكم إعدام، ويخاطب نفسه قائلاً: «أي مفارقة هذه يا بهجت؟! كي يظهر اسمك على الصفحة الأولى، لا بد أن يختفي شخص من هذه الدنيا!.(112). والمرة الثانية عندما تهاجمه الغربان وتفقأ عينيه اللامعتين من الدموع فيصبح هو خبراً في صدر الصفحة الأولى: «وقائع أيام العاصفة الثلجية/غربان تفقأ عيني أحد الزملاء الصحافيين...» (279)

ذات ليلة استيقظ بهجت فأغضبه عدم إطفاء ضوء الحمام، فأطفأه ودخل الحمام: «في العتمة كان في إمكانه دائماً أن يبول بشكل أفضل، دون أن يُطيِّر النورُ النوم من عينيه».(85)، إذ يبدو أننا استمرأنا النوم، وابتكرنا أساليب جديدة للحفاظ على النوم

إقرأ أيضا لـ "موسى أبورياش"

العدد 3272 - الإثنين 22 أغسطس 2011م الموافق 22 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً