منذ سنوات تعرفت أسرتي إلى أخت تونسية مقيمة في البحرين وتجاذبنا الحديث عن الأجواء الرمضانية الجميلة في البحرين، وتأسفت هذه الأخت المقيمة منذ سنين على حال تونس في رمضان الذي كانت تراه منقوصاً من أشياء كثيرة كانت تتمناها آنذاك في تلك الربوع الإسلامية العزيزة على قلب كل مسلم. وعلى رغم محاولتنا إقناعها بالأجواء الأسرية و»اللمّة» الجميلة بين الأهل بعد الإفطار وأجواء المدينة العتيقة وغيرها... فإنها آثرت البقاء على موقفها.

والرأي نفسه وجدته عند أخ تونسي عزيز آخر مقيم منذ مدة طويلة بل وجزم لي أنه لا يمكن أن يقضي رمضان إلا في البحرين حتى ولو صادف ذلك إجازته السنوية نظراً إلى ما يكتنف رمضان في البحرين من أجواء العبادة المفتوحة أبوابها في كل حين وفي كل مسجد أمام كل متعبد. وصراحة بعد قضاء سنتين أو ثلاث في البحرين رأينا أنهما على صواب في ما يعتقدانه، وأظن أن كثيرين آخرين في هذه الديار على رأيهم.

والآن ونحن في العشر الأواخر من رمضان المعظم، شهر العبادة والغفران، هل من جديد يحث بعض إخواننا على تجربة قضاء رمضان في تونس؟ هل تغير شيء بعد ثورة 14 يناير/ كانون الثاني2011؟.

قبل الإجابة عن السؤال بحكم إقامتي الآن في تونس؛ أود أن أرفع بعض اللبس أو لعله التجني على تونس وخصوصاً على الشعب التونسي المسلم، فلقد بالغ إخواننا في المشرق خلال السنوات الماضية في الحكم على تونس شعباً، على أنه بعيدٌ جدّاً عن الإسلام إلى درجة أن بعضهم – سامحه الله – دعا إلى إعادة فتح تونس... طبعاً يقصد فتحاً إسلاميّاً.

بل أنا شخصيّاً تعرضت لمواقف مضحكة، من ذلك أن بعضهم استغرب أني أتكلم العربية بل وأدرِّسها، معتبراً أن التوانسة يتكلمون «فرنسي» وقد ابتعدوا كل البُعد عن دينهم وعروبتهم.

لا ينكر أحد التوجه العلماني الصريح للحكومة التونسية في زمن الحبيب بورقيبة، ولا ينكر أيضاً أحد التوجه العلماني المزخرف بشكليات دينية في عهد الرئيس المخلوع حيث أراد استمالة الشعب إليه وخصوصاً بعد نجاح انقلابه في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 من خلال أدائه مناسك العمرة ورفع شعار «حامي الحمى والدين»، أو من خلال إقراره اعتماد الرؤية لهلال رمضان بعد أن كنا في عهد بورقيبة نعتمد تقويماً به نعرف عيد الفطر قبل أشهر! لكن لن يغفر له الشعب التونسي المسلم تضييقه عليهم في أداء مناسكهم الدينية بكل أريحية، فلا ترى في رمضان ولا قبله ولا بعده شخصاً معتكفاً في مسجد، ولا يحق للمصلين قيام الليل في المساجد ما عدا صلاة التراويح في رمضان ويمنع بعدها فتح المساجد إلا في صلاة الفجر. وبالتالي حرم المصلون في رمضان من صلاة التهجد في المساجد طيلة أكثر من نصف قرن.

بل لعل ما زاد الطين بلةً هو التشجيع على سلوك الاستهلاك في رمضان وإثخان الحياة اليومية للمسلم بالبحث عن الملذات المادية وتغييب الحياة الروحانية، حيث وظّف الإعلام الرسمي السمعي البصري في هذا الاتجاه، فلا نجد المسلسلات الدينية وإن وقع بثها فلا يكون إلا في أواخر الليل والناس نيام، بعد أن تعبت أعينهم من مشاهدة التفاهات التلفزية. وحتى ما يسمى بمهرجان المدينة ذي الطابع الديني في رمضان؛ فقلّما تجد فيه عرضاً دينيّاً بل لعلها عروض موسيقية أو مسرحية أبعد ما تكون عن روح الشهر المبارك الكريم.

وعموماً، لم تترك جميع أشكال التضييق على المسلمين من رمضان إلا اسمه وبعض شكلياته أما جوهره فلا تجده إلا في قلوب المؤمنين من أبناء الشعب التونسي وما أكثرهم والحمد لله.

نعم هؤلاء المؤمنون اليوم - يا أخي ويا أختي التونسية المقيمة في البحرين - يحيون الشهر الكريم: يصلون، يتعبدون، يعتكفون في العشر الأواخر. يتهجدون في كل المساجد، يرفعون أكف الضراعة إلى الخالق شكراً وحمداً على ما أصبحوا فيه بعد سنوات من الحرمان من عمارة بيت الله كما يشاء. ولا أنقل عنهم هذا رياءً أو مِنّةً، وإنما فقط إحساسنا جميعاً أن كابوساً جثم على صدورنا السنين الطوال وانزاح فاستعاد معه التونسيون بعداً صميميّاً من هويتهم أريد لهم أن ينسلخوا عنها، فما زادهم ذلك إلا إيماناً بها وتمسكاً وعملاً بتعاليم سنة النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.

أخي/ أختي التونسية المقيمة منذ زمان في البحرين... ها قد ولّى ذلك الزمن، وها نحن نشعر في تونس برمضان «غير» على لهجة أهل الخليج. نعم سبحان مغير الأحوال والحمد لله أنها تغيرت إلى أفضل.

وعلى رغم محاولات بعض وسائل الإعلام التونسية تضليل الرأي العام بإبراز بعض الظواهر ونسبتها إلى التونسي المتدين لتشويه صورة الإسلام والمسلمين لأغراض سياسية وإيديولوجية لا تخفى على أحد، فإن المراقب الحصيف يعلم أن خلق التسامح الذي يتميز به التونسي ينأى به عن الوقوع في بعض ما يحفره له شرذمة من العلمانيين الذين شعروا باقتراب نهايتهم الفكرية في تونس وبطلان أكاذيبهم التي يروجون لها.

بوركت يا رمضان في كل آنٍ ومكان. بوركت بوجهك الجديد في تونس هذا العام وبورك أهل تونس الذين لم ينتظروا قرارات فوقية لاستعادة حياتهم الدينية لأنها حرية ضمنها الدستور منذ القديم، ومنعها المتنفّذون والمراسيم والقرارات المشبوهة في الحكومات السابقة.

لكن هذا لا ينفي حاجتنا إلى تنظيم الحياة الدينية وكيفية إدارة المساجد ومراقبتها. بل إن ذلك من أهم احتياجات التونسيين بعد الثورة نظراً إلى خطورة التوظيف السياسي للمساجد واستغلال العامل الديني للتأثير في توجهات البلاد المستقبلية، لكن ليس على حساب ما شرعه الله من عبادات وخصوصاً في شهر رمضان المعظم