تناولنا في الفصل السابق النظريات اليونانية التي تطرقت لكيفية تحديد جنس المولود وجميع هذه النظريات انتقلت إلى العرب وسادت في التراث العربي القديم وبقيت حتى يومنا هذا كجزء من التراث الشعبي, وقد انتقلت هذه النظريات مع انتقال العلوم اليونانية إلى العرب, ومن أهم وأقدم الكتب التي تخصصت في دراسة كيفية انتقال العلوم اليونانية إلى العرب هو كتاب O»Leary «علوم اليونان وسبا انتقالها إلى العرب» والذي ترجم للعربية العام 1962, وقد اعتمدت على نسخة إنجليزية حديثة. والكتاب في مضمونه يرجح أن أهم العوامل التي أدت لنقل العلوم اليونانية إلى العرب عن طريق علاقة العرب الوثيقة بالسريان في المنطقة, فقد كان هنا ارتباط وثيق بين السريان والثقافة اليونانية وعندما ظهرت الديانة المسيحية كان للسريان فيما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تُعلم فيها العلوم السريانية واليونانية وأشهرها مدرسة نصبين الأولي والثانية والرها وقنسرين وجنديسابور. وكانت هذه المدارس بمثابة جسور عبرت فوقها علوم الأوائل كالفرس واليونان والتي كانت في مجموعها ذات أثر فعال ومباشر على النهضة العلمية التي شهدها العالم العربي الإسلامي.
كانت نصيبين Nisibis مدينة تاريخية تقع حالياً ضمن حدود تركيا, وفي العام 298م، كانت المدينة ضمن حدود الدولة البيزنطية (O»Leary 1979, p. 35) وقد أصبحت المدينة مقعداً كنسياً قرابة العام 301م وقد كان «بابو» أول أسقف فيها (O»Leary 1979, p. 35) وقد تلاه الأسقف يعقوب أفراهاط الذي اعتبره البعض صاحب الفضل في تأسيس مدرسة نصيبين الأولى، حيث استهوته شهرة مدرسة أنطاكية التي كانت تشبه مدرسة الإسكندرية في ذلك الوقت، فأسس مدرسة مماثلة في نصيبين وذلك في العام 325م وكان هدفها نشر اللاهوت اليوناني بين المسيحيين الذين يتكلمون السريانية، وبعد وفاة الأسقف يعقوب واصل مار أفريم الدور الذي بدأه مؤسس المدرسة وسار على نهج أستاذه حتى بلغت المدرسة في عهده مبلغاً عظيماً من الشهرة, وظل يدير المدرسة بدأب ونشاط حتى العام 363م حيث أغلقت المدرسة بعد سيطرة الفرس على مدينة نصيبين (الجمل 2005) حيث تم في هذا العام إعادة المقاطعات الخمس التي استولت عليها روما العام 298م إلى السلطة الساسانية وعلى إثر ذلك اضطر العديد من أساتذة وطلاب هذه المدرسة ومنهم مار أفريم إلى الرحيل عن مدينة نصيبين وقصدوا مدينة الرها (O»Leary 1979, p. 36).
الرها مدينة تاريخية تقع حالياً في شمال شرق سورية ضمن حدود تركيا وهي تعرف أيضاً بـمدينة اورفا وعرفت لاحقاً في العصور الكلاسيكية بـاسم إديسا (Edessa), وقد كانت هذه المدينة في السابق تقع ضمن حدود الدولة البيزنطية. وقد كانت الرها أهم مراكز اللغة السريانية، ولما دخلتها المسيحية في مستهل القرن الثاني اكتسبت هذه اللغة نفوذاً سما بها إلى أن يُنقل إليها الكتاب المقدس، وأن يتخذها المسيحيون لغة لهم، وتصبح الوسيلة المعبرة عن الثقافة المسيحية (الجمل 2005).
وقد قامت مدرسة الرها على أكتاف أساتذة نصيبين الذين هجروها سنة 363م بعد سقوطها في أيدي الفرس، وكان القديس أفريم السرياني المتوفي العام 375م أحد هؤلاء الأساتذة. ويرى بعض المؤرخين أن مدرسة الرها كانت قائمة قبل مار أفريم إلا أنها ازدهرت وذاع صيتها بعد العام 363م تحت رعاية مار أفريم، وعلى ذلك يمكن القول إن إدارة مار أفريم لمدرسة الرها (363م - 373م) كانت بمثابة بداية حقبة جديدة في تاريخ تلك المدرسة (الجمل 2005).
ويعد هيبا (توفي العام 457م) من أبرز شخصيات مدرسة الرها وأبعدها أثراً على تطور فكر هذه المدرسة ونشاطها، وقد نشطت حركة الترجمة خلال فترة إدارته للمدرسة حيث اعتنى بترجمة المنطق الأرسطي وشروحه إلى اللغة السريانية وإليه يرجع الفضل في نقل الدراسات الفلسفية والدينية الإغريقية إلى السريان.
هاجر العديد من معلمي مدرسة الرها إلى مدينة نصيبين بعد أن تعرض أنصار التعاليم النسطورية في مدرسة الرها لأشكال مختلفة من الاضطهاد، بسبب الخلاف المذهبي الذي وقع في المدرسة بسبب أفكار نسطوريوس، وقد وجد هؤلاء المهاجرون في مدينة نصيبين ملجأ ومستقراً لهم، إذ كانت المدينة آنذاك تحت سيطرة الدولة الفارسية والتي رحبت بالوافدين من الرها وقدمت لهم العون لتضمن ولاءهم لها في صراعها مع الدولة الرومانية التي كانت تسيطر على مدينة الرها في ذلك الوقت. وقد تمت الهجرة إلى نصيبين على عدة مراحل, مرحلة هاجر فيها بعض المعلمين ومنهم برصوما العام 457م ثم تبعه نرساي في العام 471م ثم تبعه عدد كبير من تلاميذ المدرسة (الجمل 2005).
قامت مدرسة دير قنسرين في القرن السادس، وبقيت مزدهرة حتى القرن التاسع الميلادي، وذاعت شهرتها في القرن السابع بوصفها مركزاً مهماً للدراسات اليونانية، وكان التعليم فيها باللغتين اليونانية والسريانية، وكانت تدرس فيها آداب اللغة اليونانية بشكل خاص، وتعلم فيها العلوم اللغوية والأدبية والكتابية والمنطقية والفلسفية والطبيعية واللاهوتية والفقهية.
أسـس كسرى الأول أنوشروان (531 - 578م) مدرسة جنديسابور وكانت بدايتها مستشفى لمعالجة المرضى وتعليم صناعة الطب، وكان الرومان أول من علم الطب بها، وكان أنوشروان شديد الإعجاب بالثقافة الإغريقية الرومانية، فرحب بالفلاسفة الذين شتتوا عندما أغلق ستينيان مدارس أثينا. اتصل العرب بأكاديمية جنديسابور قبل الإسلام، وأتيحت الفرصة لبعض الطلاب أن يواصلوا دراستهم هناك، وكانت مدرسة جنديسابور أحد الروافد التي تلقى منها العرب العلوم اليونانية والسريانية، وكان أطباؤها - بصفة خاصة - يعتزون بعلمهم، ويذكر أن حنين بن إسحاق (194هـ - 260هـ) وهو من أبناء الحيرة ذهب لاستكمال دراسة الطب على يد يوحنا بن ماسويه, لكن حنين بن إسحاق كره من أستاذه غطرسته وكبرياءه وصمم على إرواء غلته من العلوم الطبية، ووجد أن ذلك لن يتأتى له إلا بتعلم اللغة اليونانية، فسافر إلى بلاد الروم، ويقول ابن العبري في كتابه «مختصر تاريخ الدول» إن حنين بن إسحاق أحكم هناك اللغة اليونانية والفارسية والسريانية، واندفع في ترجمة الكتب من تلك اللغات حتى صار من أكبر المترجمين الذين أفادوا الحضارة العربية، وأفاد كثير من علماء جنديسابور في هذا الميدان.
وعندما ظهر الإسلام وفتح المسلمون فارس والعراق والشام ومصر في القرن السابع الميلادي، رأوا ما في هذه البلاد من مدارس تحتضن حضارة اليونان وفكرهم ولم يكونوا على جهل بهذه الثقافات جهلاً تاماً، لأن بعض المؤثرات الثقافية من المدارس السابقة تسربت إليهم. وبفضل ما أثاره الإسلام من حماسة للعلم وحثهم على التسامح إزاء الديانات الأخرى أدى ذلك إلى تزود المسلمين بقسط نافع من الثقافات التي التقوا بها ولم يكن السبيل إلى معرفتها إلا بترجمتها.
ومع مرور الزمن سُحب البساط من تحت أقدام مدرسة جنديسابور، حيث تركزت العلوم في بغداد وانتقل علم الطب وغيره إلى دار الحكمة. وبعدها أفل نجم جنديسابور، لكنها ظلت ذات مكانة كبرى في تاريخ العلم والطب في العالم
العدد 3271 - الأحد 21 أغسطس 2011م الموافق 21 رمضان 1432هـ