جلُّ التغيير في مجتمعاتنا العربية جزئي ومنقوص باسم التدرج والأخذ بالمراحل؛ فلا تنطوي مرحلة من ذلك التغيير إلا وجرَّت وراءها مزيداً من التراجع والتخلف عمّا بدأت به، ويصبح بعدها الدخول إلى مرحلة أخرى من التغيير ضرباً من الوهم أو التوهم.
كل تغيير ينطلق من تأسيس جديد لقواعد عمله ورؤيته وتعاطيه مع الإشكالات والمشكلات والتجاذبات والخلل عموماً الذي ينتاب المجتمعات وأصبح جزءاً من واقعها ووجودها، تغيير يتوخى أول ما يتوخى، التأسيس لعلاقات جديدة ومفاهيم متطورة، وثقافة تزيح وتتجاوز الثقافة التي أسست وعمقت من تلك الإشكالات والمشكلات والتجاذبات والخلل.
ما لم ينطلق التغيير من ذلك؛ لن يستطيع أصحابه والداعون إليه من طي خطوة في مرحلة على طريق ذلك التغيير. العمل على تجاوز الذهنية التي أسست لكل ذلك، وإحلال ذهنيات توجد نظاماً يبدأ بالبناء، وبممارسة عملية البناء تلك تعمد بشكل غير مباشر إلى ممارسة الهدم لما سبق، من دون ضجيج ونزيف بيانات واستنفار إعلام أدمن البطالة والردْح وهز الوسْط بمناسبة أو من دون مناسبة.
البنى السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والحقوقية (الغائبة) والمنظومة التشريعية عموماً، كل ذلك لن ينطبق عليها مسمى وفعل التغيير ما لم تفكك منظومتها السابقة (منظومة البنى) وما لم تتصدَّ كفاءات تحمل روح التغيير لتثبيت تلك البنى، ومن ثم الانطلاق من خلالها لتوليد مضامين ورؤى ومناهج وأفكار هي في الصميم من حاجات الإنسان الضرورية وحتى الكمالية. الكمالية بمعنى الفيض عليه بما يعوّضه سنوات نهبه، والتراجع وجبال من الغصص، وقارات من الحرمان، في محاولة لترميم روحه المنهكة التي استبيحت، وكرامته التي أهدرت، وإنسانيته التي ألغيت.
مشروعات التغيير الجزئي وأسميه (الإسكاتي) لن تفضي إلا إلى استنزاف زمن الأمة ومواردها وولائها ومحاولات التقائها ولو عند مفترق طريق مهجور وضيق، والوصول إلى قناعة أن الأمة ليست مهيأة للتغيير الجذري يصب في مصلحة مشروعات الوصاية المزمنة والمؤبدة عليها؛ وكأنه مقدّر لها ألا تفطم عن الوصاية تلك، وناقصة وعي وإدراك لتقرير ما تريده وعلى جهة/سلطة/دولة أن تقرر ما تريده وما لا تريده، كأنه المصل الواحد الأوحد لكل عللها؛ ولكنها بإدمانها ذلك المصل (مصل الوصاية) تتمدّد عاهاتها وعقدها وأمراضها وتخلفها وعدم جدواها في ظل هكذا وصاية واحتواء مطلق ومشروعات تغيير لن تطلع عليها الشمس.
والذين ورطوا دولهم كمستشارين لكل تلك الخيبات والتراجعات والتخلف وحجْب الهواء، عليهم أن يخضعوا للمساءلة وسنن الحقوق والمطالبات التي لم تكن في قاموس ممارستهم بالدور الذي لعبوه؛ تماماً بالدرجة نفسها التي تتحملها الأنظمة نتيجة العار المطلق الذي وضعت شعوبها في قبضته. عار الفقر؛ على رغم الثروات الطائلة، وعار الأمية؛ على رغم توجيه الموارد أو جزء عظيم منها في مشروعات الإظلام والتجهيل. كل أولئك وملحقاتهم مساءلون، وجزء من تاريخ طويل من التراجعات والتخلف ورهن الشعوب إلى مكنة الاستبداد والاستيلاء والمصادرة والوصاية تحت عناوين التدرُّج والأخذ بالمراحل.
أعود إلى نقطة بدء المقال؛ حتى في الأسرة من دون أبناء، تظل لازمة وخديعة ووصاية التدرج والأخذ بالمراحل إلى حين حصول حمل تتمدد وتتكاثر الأسرة من خلاله أمر ترفضه الفطرة؛ لأن موانع وحواجز وسواتر ونظماً وتشريعات - حتى في البيئة المشار إليها - تعمل على خنق كل محاولة وتواري كل فكرة وتصادر وتسد كل كوة أمل للارتقاء بالعلاقة من جهة ومنعها من المساهمة في الحراك العام خارج حدودها وإطارها من جهة أخرى. تعطيل الجزء - أي جزء - تعطيل وحرمان للكل من التقدم خطوة والإسهام في تراجع الأمة أزمنة. تعطيل لمضامين ورؤى وأفكار لا يمكن لها أن تشكل منظومة بانعزال يراد له أن يكون معمماً وشاملاً.
لا يمكن لتغيير أن يدفع بالمجتمعات وهو مشروط مرة بالتدرج والأخذ بالمراحل، ومرة بالخصوصية، ومرة ثالثة بأن الشعوب والمجتمعات نالت حقها من الرفاهية المفرطة والقشر من المكتسبات. تلك عناوين ويافطات لا مكان لها في عالم دائم الحراك. حيويته مصدر بقائه وتميزه وتقدمه واستثنائيته وما يصدر عنه من معجز الاكتشاف، في مجتمعات لا همَّ لها إلا إنسانها وكل ما بعده ما هو إلا صورة من الهامش؛ على النقيض من مجتمعاتنا التي لا همَّ لها إلا حصر وحجز إنسانها في سديم من الهوامش والتغييب.
إذا أراد هذا الجزء من العالم أن يعيد الاعتبار إلى تاريخه في جانبه المضيء، وأن يتيح لحاضره قيمة أمام العالم وللمستقبل المغيب، أن يخرج من غيبته الكبرى والمؤبدة عليه أولاً وأخيراً أن يضع نهاية للوصاية التي أدمنها على شعوب حتى وهي في أرذل العمر مقدّر لها ألاّ تفطم عن تلك الوصاية
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3267 - الأربعاء 17 أغسطس 2011م الموافق 17 رمضان 1432هـ