ومع ذلك ثمة روابط مهمة بين العمل الأبكر والعمل اللاحق. بعض هذه الروابط يمكن العثور عليه في فكرة البداية ذاتها. وسعيد كان مهتماً على الدوام بفكرة السياسة بوصفها قضية حكايات متصارعة، تنطوي على قيام كل حركة بشرعنة صورتها عن العالم عن طريق سرد حكاية تخص ولادتها وأصلها.
والصراع الإسرائيلي - الفلسطيني مثال كلاسيكي. وسعيد لاحظ مراراً أن تقديم القضية الفلسطينية في وسائل الإعلام العالمية، كان يعني الاضطرار إلى إعادة سرد القصة من البداية، مع الإلحاح على وجود قصة. والحال أن هذا تحول إلى مجاز فارق عند سعيد: ربط محاسن ومساوئ استخدام اللغة بالبرامج السياسية مباشرة. ولقد أوحى أن نزعه إنسية أوروبية منصرمة، وجديرة بالحداد، كما مثلها أورباخ، أدورنو، وبلاكمور، قد استبدلت بتركيبة تدين بالكثير إلى النزعات القوموية الثقافية (المختزنة في أفكار «السنن القومية») من جهة أولى، وإلى النزعات التخصصية الأكاديمية التي باتت أكثر إلغازاً وشكلانية من جهة ثانية.
ولقد وضع سعيد هذا الموقف في حال من التعارض مع مناخ أكثر جاذبية ونشاطاً وجده في صفوف المؤرخين، الذين استمد منهم معظم إلهامه الفكري في السنوات الأخيرة. وألحّ، في الواقع، على أنه في عمله «لا أشكل شيئاً إذا لم أكن مرتكزاً على التاريخ. لقد قلت دائماً إن دراسة الأدب هي في الأساس نظام دراسة تاريخي».
وإحدى مشكلات كتابه الأكثر تأثيراً، كما أشار نقاد كثر، هي أنه في غمرة إثارة مثل تلك الأسئلة العامة المهمة حول أفكار الثقافة والتمثيل، فشل في بلوغ تعيين واضح حول الجوانب أو الانعطافات التي يمكن أن تكون خاصة بخطاب الاستشراق. وهكذا، فعن أسئلته ذاتها تثير المزيد من الأسئلة، والتي تتوغل في قلب كتاباته اللاحقة. فأي فارق، إذا توافر، يجعل التأويل والتمثيل العابر للثقافات مختلفاً عن أنواع أخرى؟ ألا يبدو أن هذه الطريقة ذاتها في طرح القضية تنطوي على مجازفة تشييء فكرة «ثقافة ما» وجعلها جوهرانية؟ وهل الحال أن جميع الثقافات والمجتمعات تميل إلى إنتاج صور معادية أو اختزالية عن تلك الموجودة خارج حدودها - كما بدا أن سعيد يقترح، خصوصاً في أعماله الأخيرة؟ (...)
ولقد لاحظ العديد من النقاد التباين الظاهر التالي في «الاستشراق»: هل «الشرق» منشأ خطابي صرف، أم يوجد بالفعل «شرق حقيقي» جرت إساءة فهمه أو اختزاله على يد العلماء الغربيين، بطرائق تخدم مصلحة سياسية؟ إجابة سعيد الأكثر مباشرة كانت أقرب إلى البدهية العامة المراوغة: لا توجد مشكلة هنا لأن «من الواضح تماماً أنه ما كان سيوجد استشراق لولا المستشرقون من جهة أولى، ولولا الشرقيون من جهة أخرى». ومن الواضح أن هذا التصريح لا يحل الصعوبة، ولا فعلت هذا تأملاته اللاحقة العديدة حول مسائل كهذه، وخصوصاً في «الثقافة والإمبريالية»، كما رأى نقاده.
وهكذا فإن «الاستشراق»، ومعظم عمل سعيد اللاحق، يدور حول العلاقة بين الثقافة والسياسة، أو بين تصنيع الصور والحكايات وممارسة القوة. والأوروبيون، ثم أبناء أميركا الشمالية فيما بعد، ممن كتبوا عن الشرق فعلوا ذلك بطرق كان لا مفرّ من أن تؤطرها وتتحكم فيها اندفاعة بلدانها لإخضاع الشعوب الشرقية واستغلالها.
وكان لابد لانعدام التكافؤ الصريح في علاقات القوة بين الغرب والشرق من أن ينعكس في - ويتوطد بفعل - كتابات هؤلاء، حتى إذا كانوا كأفراد متعاطفين أو منجذبين ربما إلى الثقافات التي يصفونها. وأما على النحو المباشر، فإن العديد من كتابات هؤلاء كانت هي بذاتها قد اقترنت باندفاعة القوة الاستعمارية. (...)
وما بقي متماسكاً كان نزعة سعيد الإنسية الساخطة، ونقده البليغ والآسر أخلاقياً ليس للإمبريالية وتراثاتها المستمرة فحسب، بل لنظريات المعارضة ذاتية الأساليب، والتي ترفع لواء الفرضيات الثقافية للإمبريالية وتزعم مناهضتها في آن.
«في غمرة رغبتنا بإسماع صوتنا نميل غالباً إلى نسيان أن العالم مكان مكتظ، وأنه لو قيض لكل امرئ أن يلح على الصفاء الراديكالي أو أولوية صوت المرء، فإن كل ما سنحصل عليه هو الجلبة الفظيعة للمشقة التي لا تنتهي، وللفوضى السياسية الدامية، والرعب الحقيقي الذي أخذنا نلمسه هنا وهناك في عودة انبثاق السياسة العنصرية في أوروبا، وتنافر النقاشات حول الانضباط السياسي وسياسة الهوية في الولايات المتحدة، وكذلك - لكي أتحدث عن الجزء الذي يخصني من العالم - انعدام التسامح والتعصب الديني والوعود الوهمية للاستبداد البسماركي، على غرار صدام حسين وأشبهه ونظرائه العرب الكثيرين». («الثقافة والإمبريالية»، ص ;xxiii). (...)
جدل المعارضة
لعل سعيد ظل غير متأكد، وموزعاً عاطفياً حتى النهاية، حول ما إذا كانت موضوعاته في الهجنة الثقافية، والاستعمار كتجربة مشتركة يمكن فهمها طباقياً، والتصالح والتوفيقية، قابلة للتطبيق فعلياً في المنطقة المؤلمة للعلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية. وثمة في بعض كتاباته التسعينية تلميحات إلى أن هذه المنظورات يمكن، بحذر شديد، أن تجد لها موطناً هناك. وهنا أيضاً اسودت نظرته بمرور الزمن، وتلك الفكرة الخاصة بمستقبل مختلف وأفضل بدت أبعد بكثير: ذلك كان «نزاعاً جدلياً»، ولكنه نزاع بلا تركيب جدلي.
هل أفرط سعيد ربما في الإلحاح على عزلته وهامشيته هو؟ هل كان ذلك الحس بنفسه يدين ربما بالكثير إلى المشاق الخاصة لصورته عن الذات في الطفولة، وخصوصاً تلك التي صنعتها علاقته الصعبة والمعقدة مع ذويه كما حللها على نحو مؤثر في «خارج المكان»، بصدد المواقف السياسية والظروف في طور الصبا؟ أهنالك لمسة مبالغة، أو حتى بعض الاحتيال، في الإلحاح على العزلة الضرورية للمثقف النقدي؟ ألم تكن هنالك أثمان، مثل المكاسب، في الرفعة المتعاظمة التي أسبغها عمل سعيد على خلفيته وظروفه، بدءاً من التضرع القصير نسبياً، الغرامشوي، الآمل في «محاولة جرد الآثار التي تركت علي، أنا الذات الشرقية» في كتاب «الاستشراق»، وصولاً إلى سجل السيرة الذاتية المتكرر في كتاباته الأخيرة؟
وحتى لو شعرنا بوجود بعض الإنصاف في شكاوى مثل تلك، فإننا على الأقل سنكون ممتنين للجدية التي اعتمدها سعيد عند معالجته تلك الشكاوى. ورغم أن موقف المثقف عنده ينبغي أن يظل انشقاقياً ومعارضاً على الدوام، ورغم أنه أوحى بـ «أنني أكثر اهتماماً بسياسة الفقد والاقتلاع من اهتمامي بسياسة الانتصار والظفر»، فإن هذا كله ما كان قابلاً للاختزال إلى معارضة من أجل المعارضة فقط، كما لاح أنها حال نفر من رجالات ما بعد الحداثة. (...)
وفي العديد من المرات تأمل سعيد محاسن، ومشاق، أن يكون المرء غريباً خارجياً، منفياً. وكان في العادة يشدد على المزايا الفكرية التي يمكن كسبها من تلك المواقع، وأعطى المنفي أو النازح الفكري مكانة حاسمة في تكوين الثقافة المعاصرة. ولقد أوحى بأن وعياً «منفوياً»، وعلاقة ظلت إشكالية مع «الوطن» الضائع، شكلتا موقفه النقدي بأسره وأثرتا في طريقة تفكيره وكتابته، حتى في أعماله الأقل احتواء على السياسة. (...)
ومع ذلك، كان، مثل فرانز فانون، عميق الالتزام بالقناعة التي تقول إن «الآخرين يمكن أن يفهموا تجربة ذاتية تماماً». ذلك اليقين خيم على عمله بأسره تقريباً. وعزز إيمانه الجامح، وغير المألوف ربما، بالقوى الخلاصية للأدب التخييلي العظيم. وكان الدافع وراء المزيج الفريد القائم على التحليل، والتشخيص، والسجال، والإشكالية، والدفاع، والبوح... الصفات التي تلخص كتاباته على أفضل وجه.
وإن أهمية سعيد تكمن أخيراً في نطاق وقوة الأسئلة التي أثارها، أفضل من إجاباته هو عليها. إنه بالتالي يكاد يدعونا للعودة إلى السطور الختامية من «بدايات»، والتي كتبت قبل عقود خلت:
«في مساق دراسة وتأليف هذا الكتاب، فتحت كما أظن لنفسي (وللآخرين كما آمل) إمكانيات استكشاف المزيد من الإشكاليات... وهذه دراسات أرجو أن تكون إرادتنا الأخلاقية مكافئة لها، إذا كانت هذه البداية قد حققت غرضها».
وفاة إدوارد سعيد تبطل الأمل في أن يتابع، كما كان يشتهي، الإمكانيات العديدة التي فتحها عمله؛ ولكن أياً كان الشخص الذي سيتابعها اليوم، فإن شرف البداية، وأول الاكتشافات والقدوة الأخلاقية، ستظل باسم سعيد.
@ ترجمة: صبحي حديدي
العدد 3265 - الإثنين 15 أغسطس 2011م الموافق 15 رمضان 1432هـ