أجبَرَ ميدان التحرير بالقاهرة، حسني مبارك على التنحي. وقبل أن يُجبر ذلك الميدان الرئيس على التنحِّي، أسَّس إلى علاقة مختلفة بين المؤسسة العسكرية والحكم المدني. والمعروف هو أن أغلب الأنظمة العربية سعت لتدجين مؤسساتها العسكرية وصياغتها لكي تخدمها (باستثناء الجزائر التي كان الجيش فيها هو مَنْ يصنع الدولة منذ الاستقلال). أمر آخر، وهو الحدث الذي تلا التغيير في مصر، عندما تمَّت معاقبة رأس السلطة بتهمة قتل المتظاهرين، في محاكمة علنيَّة لم يشهد مثلها العرب منذ قرون.
هنا، لم يعد الحديث عن التغيير في مصر هو هَمُّ التفكير فقط، وإنما عن تأثيرات ذلك التغيير على الخارج، والتساؤل الحقيقي: هل سيكون لهذه الثورة المصرية تأثير على محيطها العربي؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يكون (باعتقادي) مدار بحث معمَّق بين المفكِّرين والكُتَّاب؛ لأنه وباختصار، يُجيب على أهم الأفكار الثورية التي دَرَجَت البشرية على تلمّظها مُنذ أن عَرَف الإنسان قضايا التمرّد والنهوض. في التاريخ المقروء، رأينا ما أعملته الثورة الفرنسية (1789م) في الأنظمة الأوروبية المحافظة، سواء في الشمال أو الوسط أو الجنوب. وما فعلته الثورة البلشفية (1917م) في روسيا ومحيطها من انتشار لفكرها الشيوعي بقوة شهابيَّة.
دعونا هنا، نقيم وازنًا من التحليل القائم على المقارنة بين حَدَثيْن ثورِيَّيْن، أحدهما حَصَلَ في فرنسا في العام 1789م، وآخر حَصَلَ في مِصر في العام 2011م. فارق الزمن مطلوب، وقياس المادة والحيِّز أيضاً مطلوب؛ ولكن ما نهدف إليه هو تتبُّع المشتركات في العنوان الثوري والتغييري، وكذلك مشتركات أجواء ما قبل التغيير وأثنائه، ثم نقارن بين التأثيريْن على الداخل والخارج معاً، لكي نخرج بخلاصةٍ ما، توضح لنا هوية التغيير الذي حصل في المكانيْن (فرنسا ومصر) وحدوده، والفارق بينهما في القوة والنفوذ، ومَدَى وصول التغيير إلى عظم النظام والمجتمع.
عندما نقرأ التاريخ الأوروبي، لتتتبّع مسار الثورة الفرنسية على سبيل المثال، فإننا نقف على أحداث كبيرة جداً أعملتها تلك الثورة على عُموم القارة الأوروبية. فهي التي بلورت التفكير الجديد بالنسبة للسياسات الديمقراطية الليبرالية والراديكالية، والتفسير المتماسك للقومية، وتحوّل مصطلح الحرية من تعبير قانوني صرف تقابله العبودية، إلى مصطلح ذي مضمون سياسي، بالإضافة إلى القانون الدستوري الذي اختطته لاحقاً الدول الأوروبية جمعاء. بل إن هذه الثورة مدَّت خيطاً رفيعاً حتى للعالَم الجديد حيث الولايات المتحدة التي كانت للتَّو خارجة من ثورتها ضد البريطانيين، وتحتاج إلى عملية دسترة للدولة الجديدة. بل إن الفرنسيين استطاعوا التأثير حتى على أميركا اللاتينية بعد العام 1808م، فضلاً عن تأثيرها عن محيطها القريب، سواء في إسبانيا أو سويسرا أو ألمانيا وهولندا وحتى على بريطانيا كما يذكر ذلك إيريك هوبزباوم في كتابه القيِّم «عصر الثورة».
دقِّقوا جيدًا في ملحوظة هي غاية في الأهمية هنا في مسألة التشابه. فالكثافة السُّكانية والحالة الديمغرافية للبُلدان هي من الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورات على مدار التاريخ. نقطة الاشتراك ما بين ثورتي مصر وفرنسا في مفردة الدولة وضمن نطاق الكثافة السكانية هو أمر واضح. ففي فرنسا وعند قيام الثورة فيها كان الفرنسيون يُشكّلون 20 بالمئة من نفوس الأوروبيين. اليوم المصريون يُشكِّلون 25 في المئة من مجموع سكان العالَم العربي، وبالتالي فهي أهم وعاء ديمغرافي متنوع في العالَم العربي الذي بإمكانه أن يستجيب للتغيير، ويتفاعل مع القيم الثورية بشتى مراتبها، بالضبط مثلما كانت فرنسا بالنسبة للقارة الأوروبية.
في جانب القوة المادية، فقد كانت فرنسا، وقبل اندلاع الثورة فيها بتسعة أعوام قد تضاعفت تجارتها الخارجية أربع مرات، وكان لها حضور استعماري في الخارج، سواء في جزر الهند الغربية أو غيرها من الأصقاع، وكان لها حضور ونفوذ على القارة الأوروبية، وتحالفات بداخلها، وبالتحديد لمواجهة النفوذ البريطاني. وبالنظر إلى مصر قبل اندلاع الثورة فيها سنرى أنها أيضاً كانت رائدة في مجال القوة المادية، فهي التي قادت حروب العرب مع «إسرائيل» منذ نهاية الأربعينيات، ولها تأثيراتها على العالَم العربي عبر تحالفاتها لريادة محور الاعتدال، وكانت علاقاتها مع واشنطن ساعدتها في التأثير على أوضاع المنطقة ومسار أحداثها.
في الأحوال التي سبقت قيام الثورة الفرنسية، كانت أجزاء مهمة من القارة الأوروبية تشهد اضطرابات وتصدعات، واختناقات سياسية، ومُطالبات بالانفصال حتى. فكانت ايرلندا بين عامي 1782م و1784م، وكانت بلجيكا ولييج بين عامي 1787م و1790م، وكانت هولندا بين عامي 1783م و1787م، وانجلترا في العام 1779م (راجع نفس المصدر). في مِصر، الحال كذلك؛ ففضلاً عن انتفاضة تونس التي أطاحت بزين العابدين بن علي، كانت هناك مُطالبات بالانفصال في العراق (الشمال)، والسودان (الجنوب) واليمن (الجنوب). وكانت هناك اضطرابات وحرب استنزاف في لبنان وسورية، وهي أوضاع شبيهة جداً بالأوضاع التي شهِدتها فرنسا أيضاً.
في فرنسا قبل الثورة، كانت الطبقيّة الاجتماعية قد نخرَت في المجتمع الفرنسي حتى وصلت إلى العظم. وكان 400 ألف فرنسي هم طبقة النبلاء، من أصل 23 مليون فرنسي. وكانت هذه الطبقة، هي التي تستفيد من الامتيازات الممنوحة من الملكية الحاكِمة، كالإعفاء من الضرائب، وتقاضي الريوع الإقطاعية وتولِّي المناصب. الحال في مصر مشابه جداً. فقبل الثورة بعقد ونصف، كان 73670 مصرياً يملكون 795 ملياراً ونصف المليار دولار. وكانت نسبة الفقر هائلة في مصر، لدرجة أن الأمم المتحدة كانت توفر 40 ألف وجبة إفطار لطلاب من المدارس الحكومية.
هذا التشابه الكبير في الظروف التي سبقت قيام الثورتين الفرنسية والمصرية وأثنائها يُعطي انطباعاً عن مدى دَوَرَان التاريخ ليس في نتائجه ومآلاته فقط، وإنما في الأحوال التي تسبق النتائج. لكن المهم (وهو مدار التساؤل) هل أثرت الثورة المصرية في محيطها العربي بذات المقدار الذي أثرت به الثورة الفرنسية على محيطها الأوروبي؟ النتيجة الأولية باعتقادي تحتاج إلى بحث أكثر عُمقاً لكي نحصل ولو على تلابيب الإجابة. (وللحديث صلة)
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3264 - الأحد 14 أغسطس 2011م الموافق 14 رمضان 1432هـ
الثورة الفرنسية والمصرية يجمعها الصرخة المدويه على الفقر انهما ثورة الجياع.... ام محمود
ان هذا الواقع الذي يماثل الصورة الحديثة هو الذي نسميه منذ القرن الثامن عشر بالمسألة الاجتماعية والذي من الأفضل والأبسط ان ندعوه وجود الفقر .. ان الفقر أكثر من الحرمان انه حاله من الحاجة المستمرة والشقاء الحاد الذي يكمن خزيه في قوته التي تجرد الانسان من انسانيته والفقر مهين لأنه يضع البشر تحت الاملاءات المطلقة لاجسادهم أو تحت الأمر الأساسي للضرورة كما عرفها الناس من تجربتهم الذاتية والحميمية وتحت حكم هذه الضرورة اسرع حشد الجموع الى مساعدة الثورة الفرنسية وألهمها ودفع بها للامام
(حنة أرندت)
لا أعتقد
هل أثرت الثورة المصرية في محيطها العربي بذات المقدار الذي أثرت به الثورة الفرنسية على محيطها الأوروبي؟ بالجواب باختصار شديد : لا أعتقد
ثورتان
الثورة المصرية لا يمكن ان تكون مثل الثورة الفرنسية التي كانت أحد علامات التحول السياسي في اوربا والعالم مع تذكر فوارق الزمن