العدد 3264 - الأحد 14 أغسطس 2011م الموافق 14 رمضان 1432هـ

لا تجذُّر لعابر... لا عبور لمتجذّر

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أوطان تحدِّد ثرمومتر إجرامك من خلال ملامحك، وسترفع من حرارة ذلك الثرمومتر بلهجتك ولكْنتك. تلك قمة الذوبان والترقب إلى الشهوة والمزاج في الاستهانة بكرامة الإنسان، والدفع به نحو أتون سياساتها الضالعة في كل أوبئة وأمراض الدنيا.

أوطان لا يثبت انتماءك إليها سوى سجلّ وهويّة منحتَ إياها فقط. لتأكيد أن السلطة مرجعك الأوحد، وأنك إن قُدِّر لك أن تستقل وتثرى بعيداً عن الحبل السري الذي تعايرك به تلك الأوطان عبر أجهزة إعلامها؛ تظل مُواطن الحاجة والارتهان.

تلك صيغة تذهب إلى الحدود الدنيا من إهانة الإنسان، وجعله مادة أساسية ترتكز عليها السلطة لإثبات أنها هنا، وأنك هناك. هناك في العدم الذي تنتخبه، والحضور الذي تصطفيه.

لا شيء يدل على أن هذه الأوطان بلغت مستوى النضج والحكمة. كل المؤشرات تثبت وتكرِّس وتؤكد «زعْرنة» لا تدل على مقوّمات ومكوّنات الدول. دول عرفتها خريطة العالم؛ بما فيها «جمهوريات الموز». أن يكون المواطن جزءاً من الممتلكات العامة للدولة في عالمنا، وأن يكون جزءاً من الملكية الخاصة في الوقت نفسه. مثله مثل الأراضي البور والسواحل المهجورة أو المسوَّرة، لا فرق.

لن تقف على مشهد تتبدّد فيه مدنية الدولة إلى عسكرتها كما هو الحال اليوم مع واقع وطبيعة المواطن العربي في جغرافيات مسوّرة بالغربان، ومحاطة ومؤثثة بالعسس!

كل استقصاءات الدنيا باتت عاجزة عن تتبّع لياقة آلة الدمار والمحو والمصادرات التي تنتهجها دولنا في سبيل تأبيد الحطام في نفوس وأرواح مواطنيها؛ فيما تعمد إلى قشر الحياة من حولهم فتمنحه تطاولاً وامتداداً تستفيد منه «طبقات» في استفزاز للذين لا يملكون شرفة يطلُّون من خلالها على يأسهم؛ عدا أملهم وألمهم!

الحريات في كل أوطان الدنيا تُؤخذ؛ لكنها في أوطاننا «تُعطى»، وباشتراطات بائسة، مذلة، مخزية، ولن يتأتّى لك الحصول عليها في نهاية المطاف. هو إعطاء بمثابة تعميق للإذلال والتبعية وتوثيق للملكية المفتوحة على كل شيء، وعلى كل مخلوق.

حتى المعرفة خاضعة للثرمومتر والملكية تلك. أن تعرف بشروط، وأن تجهل تلك حريتك المتاحة والمحبّبة. لا خطر في أن تجهل بالنسبة إليها. الخطر في أن تعلم. كل معرفة بمثابة جبهة صمود وتصدٍ. التجهيل مشروع مفتوح على المدى البعيد. وثمة مثقفون هم في حقيقة الأمر غربان لا يحلو لهم ولا يهنأ لهم نوم ما لم يزجُّوا بما عداهم من أرواح وقيم إلى الجهة القصوى من الجحيم، ليحققوا ويثبتوا أنهم مسوخ وخارجون على حُرِّ الفطرة ونقائها.

أوطان تعيد صوغ وتخطيط خيارات مواطنيها، تماماً كما تعيد صوغ وتخطيط شوارعها ومدنها «الموصدة» وأبراجها المستفزة بامتياز.

***

وللشعوب الهوامش مهما نافحت عن حدودها. لها الهوامش التي بها يستقيم حضور ووجود الدول. الدولة بمفهوم السطوة والحيازة ورهن الخيارات. للشعوب الهامش بعذاباتها المؤجّلة واللانهائية.

وللدولة في مفهوم السطوة، المتن كل المتن. لا أحد يكابر أمام واقع قائم، وحقائق ماثلة، وشواهد برسم إحراج الزمن.

للشعوب الهامش، وهي سيدة المتن، متى ما توافر لها الخيار، ومتى ما توافر الفضاء الذي هو من حقها من دون منّة من أحد. الدول بحكم المنطق والصيرورة التاريخية زائلة، والشعوب بحكم المنطق والصيرورة التاريخية متجددة ومتجذرة. لا تجذر في عابر، ولا عبور لمتجذر.

في السياق المضطرب والسياق المتأزم والسياق الطارئ، للشعوب الهامش المفروض بفعل السطوة والقمع والتفنن في المحو والإلغاء. وللدول تلك؛ على رغم طارئيتها وذهابها تفنناً في التأزم والسطوة والقمع والمحو والإلغاء، بقاء يفي بالمؤقت من الحضور، والعابر من الإنجاز، والهش من الفعل.

لا يزايدنَّ أحد على حقائق التاريخ، والماثل من الشواهد المتكررة في حركة طبيعة سياسة المجتمعات، وتلقي تلك المجتمعات لتلك السياسات، سلباً أو إيجاباً. لا يزايدنَّ أحد على ثبات الأمر وتكريسه باعتباره نصاً مستلاًّ من حركة التاريخ في جانبها الشاذ والموجّه. ذلك أمر دونه قيم وثوابت وتوازن في حركة الكون أصلاً قبل أن يكون توازناً في حركة المجتمعات وردود أفعالها، وما يتمخض عن تلك الردود من ردود مضادّة

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3264 - الأحد 14 أغسطس 2011م الموافق 14 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 12:40 م

      فلسفة التجهيل-مواطن مغترب-2-

      تلك حالة وجدت في عصور العبودية وهي حاضرة ايضا في بعض نهج السياسات في عصرنا الراهن حيث لا يمكن لامة تبني كيانها وتؤكد حضورها على الخارطة الدولية في ظل المنافسات المحتدمة ضمن منظومة المجتمع الدولي دون تكون قادرة على المنافسة بقدارات كوادرها الوطنية عالية التحصيل العلمي بيد انه وذلك ما يؤسف له , يبدو نحن امة ضالعين في استهداف الكفاءات العلمية في تصفية الحسابات بدل الاعتداد بكفائتها تلك شواهد دللتها الاحداث في بلدان الصراع في مجتمعنا العربي.

    • زائر 6 | 12:38 م

      فلسفة التجهيل-مواطن مغترب-1-

      مقال عميق في بعد تققيمه وصياغة مقولاته الادبية واستوقفتني تلك المقولات في محطات مختلفة لتطور حضارات الجنس البشري فنمذ ان وجد البشر على هذه البسيطة وتكونت التجمعات البشرية وفي مرحل لاحقة بناء الكيانات والدول كان لمعادلة المعرفة والجهل ركيزة في ثوابت سياسات الجماعات والكيانات والدول لتوطيد نفوذها وتمايزت العلاقة في شان ذلك فهناك من اعتبر المعرفة اساس للتطور ومنها من اعتبرها خطرا على وجوده كما ان هناك من اعتبر الجهل خطرا والاخر ضرورة لضمان وجوده.,يتبع

    • زائر 5 | 11:55 ص

      فلسفة التجهيل-مواطن مغترب-2-

      تلك حالة وجدت في عصور العبودية وهي حاضرة ايضا في سياسات البعض في عصرنا الراهن حيث لا يمكن لامة تبني كيانها وتؤكد حضورها على الخارطة الدولية في ظل المنافسات المحتدمة ضمن منظومة المجتمع الدولي دون تكون قادرة على المنافسة بقدارات كوادرها الوطنية عالية التحصيل العلمي بيد ان ما يؤسف له , يبدو لي نحن امة ضالعين في استخدام اسلحة الدمار الشامل في القضاء على الكفاءات العلمية بدل من حمايتها والاعتداد بكفائتها تلك شواهد دللتها الاحداث في بلدان الصراع في مجتمعنا العربي.

    • زائر 4 | 11:49 ص

      فلسفة التجهيل- مواطن مغترب-1-

      مقال عميق في بعد تققيمه وصياغة مقولاته الادبية لواقع الحال في بلادنا واستوقفتني تلك المقولات في محطات مختلفة لتطور حضارات الجنس البشري فنمذ ان وجد البشر على هذه البسيطة وتكونت التجمعات البشرية وفي مرحل لاحقة بناء الكيانات والدول كان لمعادلة المعرفة والجهل بها ركيزة في ثوابت سياسات الجماعات والكيانات والدول لتوطيد نفوذها وتمايزت العلاقة في شان ذلك فهناك من اعتبر المعرفة اساس للتطور ومنها من اعتبرها خطرا على وجوده كما ان هناك من اعتبر الجهل خطرا والاخر ضرورة لضمان وجوده.,يتبع

    • زائر 3 | 2:54 ص

      مجرد راي

      شكرا لك على كتاباتك واسمح لي بالتعبير عن رايي سيدي اعترف فعلا انه مقال رائع وكالعادة من قلمك الرائع ولكن الست معي بأنه موجه للجميع ليعوا "الزبدة" اسمح لي ان اختلفت معك في توجه الطرح مع اتي اتفق جدا في المضمون الوطنية سيدي تكون بالانتماء للارض وحب الوطن يكون بالتضحية بالنفس وليس بالابرياء .. واخيرا الملامح واللكنة واللهجة لم تكن يوما ثرمومتر اجرام الا بعيد تاريخ معين نعلمه جميعا للعلم ان اشاطرك اللكنة وربما اللهجة شكرا لكلماتك ومقالاتك حقا انت متميز

    • علي الجمراوي | 10:05 م

      .....

      مقال قوي بمعنى الكلمة . . بارك الله فيك استاذ جعفر

    • زائر 1 | 8:05 م

      هوية الأرض

      هوية الأرض في أعراقنا رسخت
      ,انبتت من دمانا النخل والرطبا.

اقرأ ايضاً