قبل استعراض الأسباب الرئيسية التي أوصلتنا الى عنق الزجاجة، وعرضت سمعة وطننا على المستوى العالمي الى ما لا نتمناه، من المفيد أولا تعزيز الرأي الذي يشخص وجاهة هذه الأسباب بحقائق علمية مستقاة من الواقع وبعيدة عن الاصطفافات العاطفية. ولنبدأ بنظرية «تسمى النافذة المكسورة».
فوفقا لهذه النظرية التي التي وضع اسسها الأخصائي في علم الجريمة جيمس ك فإن عدم اصلاح النافذة المكسورة يولد انطباعا عاما مفاده أن كل شيء آخر أو مماثل يعد مقبولا وممكناً. من هنا فإن كسر المزيد من النوافذ الأخرى يصبح واقعا مقبولا لدى عامة الناس مما يولد حالة من الفوضى في المجتمع بسبب اهمال اصلاح خلل بسيط في بدايته. ففي الولايات المتحدة الأميركية مثلا انخفضت نسبة التوظيف الى 2.2 في المئة في أوساط المواطنين السود فاعتقد العامة منهم ان لا فائدة ترجى من التعليم مما نتج عنه تضاعف معدل التخلي عن المدرسة بين الطلاب السود وذلك بسبب عدم معالجة مشكلة انعدام مبدأ تكافؤ الفرص في التوظيف بين المواطنين. وعلى مر الأيام تفاقمت مشكلة الفقر بينهم مما تسبب في اندلاع اعمال العنف في كثير من المدن الأميركية حتى بلغ أوجه أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين المتنافسين في سبعينيات القرن الماضي .
وبالإضافة الى نظرية النافذة المكسورة برز كتاب» نقطة التحول» للمؤلف الأميركي مالكوم غلادويل الذي أكد على أن اهمال الأشياء الصغيرة يتسبب في احداث تحولات كبيرة. فنقطة التحول حسب تعريف الكاتب هي اللحظة السحرية التي تجتاز فيها فكرة او سلوك اجتماعي عتبة معينة فتتحول وتنتشر مثل النار المستعرة. ويمكننا وضع التحول الذي يشهده المجتمع البحريني المنقسم على نفسه في هذا السياق. فالتغيير بحسب رأي الكاتب لا يحصل بالضرورة تدريجيا وانما في لحظة حاسمة واحدة بسبب تراكمات تاريخية لأشياء صغيرة ساهمت في احداث تحولات كبيرة. وهذه النظرية تتوافق ونظرية النافذة المكسورة.
في مقال سابق استعرضنا مسببات التحولات التي مرت وتمر بها بعض الأقطار العربية مثل تونس ومصر واليمن ووطننا البحرين، وأوردنا أرقاما واحصائيات عن حجم البطالة والفساد والدين العام في هذه الدول والتي يتفق معظم المحللين على أن تراكم هذه المسائل أوجد الشرارة التي تسببت في اشعال نار الربيع العربي. فوفقا لنظرية أخرى تسمى الاشتعال أو كيمياء الحريق فإن الاشتعال يتطلب توافر ثلاثة عناصر هي المادة القابلة للاشتعال، الأوكسجين، الحرارة أو مصدر الاشتعال ثم التفاعل الكيميائي المتسلسل. وهذا ما يطلق عليه مفهوم مثلث أو هرم الاشتعال. وفي علم السياسة والاجتماع تكمن المقاربة لهذا المفهوم العلمي بحالة توافر عوامل البطالة والفقر والفساد في المجتمع كمواد قابلة للاشتعال، ثم السخط والتململ من انتشار هذه الظواهر في حالة من غياب العدالة وحكم القانون ليوفر بذلك الأوكسجين اللازم للتفاعل، فتشكل هذه العوامل مجتمعة مثلث الاحتراق على شكل غضب عارم ينتج عنه ما سمي مؤخرا بربيع العرب.
يحلو للمتطرفين الذين يمسكون الأشياء من الطرف تجاوز العقل لتبرير ما يعاني منه وطننا من تشرذم وتأزم فينسبونه لعوامل مجردة من العلم والعقل والمنطق وذلك في محاولة بائسة وغير معنية بسلامة الوطن. البعض يعيش وهماً خارج محيط الواقع، يقابله في البعض الآخر من يرى في الاستئثار والانتقام الجماعي، الذي يدفع لمزيد من اليأس، وسيلة للعلاج، فيتأزم الوطن وتصبح همومه مضاعفة وعصية على الحل. وفي هذا تسطيح ومغامرة غير محسوبة العواقب. فاليأس والكآبة احد اسباب الانتحار وفقا لما يقوله علماء النفس الذين يؤكدون بدورهم على أن عقل الإنسان كلوح من الزجاج. فعندما يصاب هذا اللوح بثلم صغير ولا يتم علاجه فإنه يكبر مع الأيام ليصاب المريض بحالة من انفصام الشخصية والكآبة التي تودي به في النهاية الى الانتحار. وفي هذا السياق نشير الى المقولة الشهيرة للكاتب المسرحي الشهير وليم شكسبير وذلك في مسرحيته المعروفة بهاملت. في هذه المسرحية يبلغ اليأس مداه بالأمير هاملت ليعبر عنه في قولته المشهورة «أكون او لا أكون، هذا هو السؤال» . فهاملت الذي لم يتحمل وشوشة الساحرات وحثهم الدئم له على القتل والانتقام بات غير قادر على التركيز فأصابته الكآبة التي دفعته للتأمل في الانتحار ليصبح عاجزا عن الاختيار بين ان يكون أو لا يكون.
وطننا البحرين يجب أن يكون. وهذا لن يتأتى الا بالتأمل العقلاني ونبذ وشوشة الساحرات اللاتي يحرضن الناس والدولة على الانتقام.
لكي نكون لابد من نظرة فاحصة على الداخل والمحيط. فعلى مستوى الداخل هناك دروس مستقاة من مستصغر الشرر الذي تسبب في اندلاع حريق ربيع العرب والذي من المفترض ان يوفر لنا فرصة لا خيار لعاقل غير تأملها والاستفادة منها. وعلى مستوى الخارج تبرز امامنا تطورات سياسية واقتصادية تطالنا شئنا ام ابينا. فحليفنا الاستراتيجي الذي نعتمد عليه في أمننا واقتصادنا يمر بأزمة مالية خانقه لا يعرف حتى الآن وسيلة للخروج منها. فأذونات خزانته لدول الخليج فقط تبلغ 400 مليار دولار. أما على الجانب الأمني والعسكري فإن وضعه الاقتصادي المتردي يجعله غير قادر الى امد غير محدود على ضمان تمويل تواجده العسكري لحماية امدادات نفط تقل حصته فيها كثيرا عن حصة منافسيه من الدول الأخرى كالصين والهند اللتين، بالرغم من ذلك، لا تساهمان في تكاليف هذه الحماية. وفي وضع كهذا سيضطر الراعي والحليف عاجلا أم آجلا للدخول في ترتيبات اقليمية لحماية مصالحه قد تكون المقايضة فيها مع الغير واردة على حساب مصالحنا. وفي وضع كهذا أيضا من الحكمة تدارك الأمر مبكرا ليغدو ترميم البيت من الداخل أجدى وأنفع لنا جميعا بدلا من الانشغال بروح الانتقام الأعمى. فعدم اغلاق النافذة يسهل على المتربصين النفاذ منها لتسهيل عملية الابتزاز في عالم المقايضات السياسية.
إن ما أصابنا ليس وليد الساعة بل هو حصيلة تراكمات لشرارات مزمنة تم تجاهلها لتتحول الى نار حان الوقت للتعاون من أجل معالجتها بتحكيم العقل، والابتعاد عن شعوذة ساحرات هاملت التي دفعت بالوطن الى مستنقع الاستقطاب، وتعمل الآن جاهدة لتقودنا جميعا الى حافة الانتحار.
فمن روى عطش النخيل وثبت جذورها في أرضك، ومن غاص لجني اللؤلؤ من اعماق بحرك، وصان برجالاته عروبتك، ثم بوفائه استقلالك، لن يرضى ان يراك منتحرا يا وطني
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 3263 - السبت 13 أغسطس 2011م الموافق 13 رمضان 1432هـ
تحليل رائع
تحليل صائب, عميق و صحيح و خاتمته ممتازة. من اجمل المقالات التحليلية. أحسنت.
دعوة صادقة ...
دعوة صادقة لوقف تسانامي الظائفية البغيض الذي يستغل فيه ضعاف العقول في التنفيذ بدون الاخذ بعاقبة الامور!!
ابوجعفر
أكثر من رائع
هذا هوالمقال الأول الذي أقرأه لعبدالحسن بوحسن ولكن يبدو أن الرجل يمتلك مؤهلات رائعة من ثقافة وأسلوب كتابي وغيرها مما جدذبني كثيراً
نكون أو لا نكون
شكرا أستاذ على هذا المقال الرائع ، وحتى نكون كما قال هاملت نحتاج إلى من يخرجنا من يأسنا حتى لا ننتحر انتحار جماعي ، أين عقلاء الوطن يجب إن تكون هناك مواقف صريحة من مثقفين ورجالات هذا الوطن الغالي ، نحن على شفاء حفرة إلى نفق مظلم لا قرار له ، فماذا ننتظر ؟ الوقت ليس في صالح المخلصين لهذا الوطن، يجب أن نكون نكون نكون .
لن نرصى بأن نراك منتحرا يا وطني
فمن روى عطش النخيل وثبت جذورها في أرضك، ومن غاص لجني اللؤلؤ من اعماق بحرك، وصان برجالاته عروبتك، ثم بوفائه استقلالك، لن يرضى ان يراك منتحرا يا وطني
مواطن
الطائفية هى السبب