العدد 3263 - السبت 13 أغسطس 2011م الموافق 13 رمضان 1432هـ

إدوارد سعيد: المسافر والمنفى (1 - 3)

ستيفن هاو comments [at] alwasatnews.com

أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا

نسافر كالناس، لكننا لا نعود إلى أي شيء... كأن السفر

طريق الغيوم (...)

لنا بلد من كلام. تكلم تكلم لأسند دربي على حجر من حجر

لنا بلد من كلام. تكلم تكلم لنعرف حداً لهذا السفر!

(محمود درويش، نسافر كالناس (1))

تلبدت الغيوم كثيفة فوق نيويورك حين كان إدوارد سعيد، المثقف الكبير المسافر، يبدأ رحلته الأخيرة يوم 24 سبتمبر/ أيلول. بدا ذلك الطقس القاهر مناسباً تماماً في قتامته واسوداده، مطابقاً لمزاج جميع من عرفوا سعيد وأعجبوا بعمله، لكن النقلات الطارئة، التي تراوحت بين المطر المدرار، وانبثاقات الشمس الساطعة، كانت بدورها ملائمة لرحيل رجل مثقف، متقلب المزاج، بالغ التنوع في انحيازاته وانشغالاته.

كان سعيد مسافراً دائماً، بالمعنيين الحرفي والمجازي: رجل، بكلمات شاعر آخر كبير هو أرتور رامبون يبدل الأوطان كما يبدل الأحذية. وبما أنه فقد بلده الأم فلسطين، في يفاعته، فقد كتب مراراً أنه لم يكن يشعر بحس الاستيطان في أي مكان، ما خلا «وطن الكلمات» ربما.

تقاربت عنده مدينة نيويورك، حيث توفي، وجامعة كولومبيا، حيث درس طيلة أربعين سنة. ولقد تأثر في كل ما كتب وفكر بمدينة نيويورك، مكان التشكيلات الثقافية المتعددة، والهجرات المتعددة، والأقليات والشتاتات، فضلاً عن كونها مركز قوة للأعمال والإعلام والثقافة، وبموقعه هناك، جامعاً بين المركز المهني ذي الحظوة، والوعي الهاشمي المنفوي Exilic.

وشخصية المسافر في قصيدة درويش، تمثل الشعب الفلسطيني، الذي أرتبط مصيره وتشرده بمهنة وعمل إدوارد سعيد على نحو وثيق لا ينفصم. ولكن كان للأمر قرينته الأكثر كونية وإيجابية في نظر سعيد. ولقد أوحى ذات مرة بأن موضوع عمله في حد ذاته هو شخصية العبور Crossing over حقيقة النزوح بالغة الدلالة في نظري: الانتقال من دقة وملموسية شكل أول من الحياة، وتحوله أو تصديره إلى شكل آخر... ثم بالطبع، دخول مجمل إشكالية المنفى والهجرة في المسألة، والناس الذي لا ينتمون ببساطة إلى أية ثقافة. تلك هي الحقيقة الكبرى الحديثة، أو ما بعد الحديثة إذا شئتم، المتمثلة في الوقوف خارج الثقافات.

وبالتضافر مع فكرة الآثار الفكرية التأهيلية للموقع المنفوي، يوحي سعيد كذلك بـ «المسافر» كفكرة مستحبة للمفكرين النقديين. كانت صورة لا تعتمد على القوة، بل على الحركة، على جسارة الذهاب إلى عوالم أخرى، واستخدام لغات أخرى، وفهم مضاعفات مظاهر التنكر، والأقنعة، والبلاغة. على المسافرين أن يعلقوا مزاعم الروتين الاعتيادي لكي يعيشوا في إيقاعات وطقوس جديدة... المسافر يعبر، يقطع الأقاليم، ويتخلى عن المواقف الجامدة طيلة الوقت.

هذه الصورة هي نقيض صورة العلامة، بوصفه مليكاً أو «عاهلاً»، زاعم السيطرة على الحقل الأكاديمي: هذه الصورة كانت، في نظر سعيد، سلبية وتدميرية تماماً، إذا لم تكن كارثية في غطرستها. ولكن من الواضح أن كل شيء يعتمد على كيفية سفر المرء. أولئك الذين نزحوا من المستعمرة إلى المتروبول، ولكن كان الهدف من عبورهم ينحصر في التماهي الفكري والعاطفي مع الثقافة، والمواقف السياسية المهيمنة في المتروبول - الحال التي اقترنت باسم ق. س. نايبول مثلاً - أثاروا على الدوام غضب سعيد واحتقاره.


وسيط الكلمات

كان إدوارد سعيد بين المفكرين والكتاب الأهم في عصرنا، أيّاً كان المقياس. وكان لكتاباته تأثير هائل على نطاق العالم بأسره، في المستوى العلمي أو في المستوى الأعرض للسجالات العامة، وهو التأثير الذي عبر القارات والجماهير والأنظمة الأكاديمية. وكان عمله يقتبس دائماً. ويبنى عليه، ويستوحى منه ويهاجم في أوساط نقاد الأدب والمنظرين الثقافيين، الأنثروبولوجيين، المحللين السياسيين، وحتى في ذلك النظام التعليمي الفرعي المسمى بـ «دراسات مناطق» الشرق الأوسط، والذي هاجمه سعيد بشدة.

فوق ذلك، لم يكن سعيد علامة غزير الإنتاج وواسع التأثير فحسب، بل كان أيضاً صوتاً سياسياً بالغ الدلالة على نطاق المعمورة. كان طيلة سنوات عديدة عضواً في «المجلس الوطني الفلسطيني»، «برلماني» السلطة الوطنية الفلسطينية في المنفى، ووسيطاً أساسياً بين العالمين العربي والأميركي، في السجلات العامة كما في المفاوضات السرية أحياناً.

وفي الولايات المتحدة، وكذلك على نطاق واسع في شبكات الأخبار البريطانية والأوروبية، احتل بثبات موقع الممثل الأبرز لـ «وجهة النظر الفلسطينية»، أو حتى «الرأي العربي»، وفيما بعد حاز على حضور إعلامي متميز في العالم العربي ذاته. ولا ريب في أنه كان المفكر العربي الأشهر في زمانه، وربما في كل زمان، على نطاق عالمي: وفي الواقع، كان ينتمي إلى قلة من المفكرين المعروفين على امتداد العالم، ممن يخوضون في الشأن العام.

ولقد أطلق عمل سعيد ما بدا أشكالاً جديدة من الدراسة الثقافية والتاريخية، وأسس بالفعل لنوعين أكاديميين جديدين ينموان بسرعة: «دراسات ما بعد الاستعمار»، و «تحليل الخطاب الاستعماري». وفي ندوة نظمتها مجلة American Historical review سنة 2000، تأكد بالوثائق أن تأثير سعيد يمكن أن يبلغ، وهو بالفعل شديد الأهمية، في حقول أبعد ما تكون عن اهتماماته الرئيسية، مثل تاريخ القرون الوسطى، ودراسات البلقان، والتاريخ الدبلوماسي الأميركي. ولقد اتسع نطاق تأثير تلك الأفكار أكثر فأكثر، إذ يمكن رصدها لدى الفنانين البصريين ومديري المتاحف والروائيين ومخرجي الأفلام السينمائية، فضلاً عن جمهور عام وعريض من القراء. وفي نظر المعجبين به، بات سعيد النموذج المثالي للمثقف النقدي.

وللنطاق الرفيع لخبراته واهتماماته ضم أنظمة أكاديمية وأشكالاً فنية، إلى جانب المناخات السياسية، الحافلة. لقد كتب عن، وكان له تأثير في النقاشات حول، دراسة التاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا، والجغرافيا، وسطوة وسائل الإعلام وأغراض التربية ومسئوليات المثقف والأفكار حول الهجرة والمنفى والشتات، والتعددية الثقافية والدين واللغة والحرب، وسوى ذلك كثير. وكان مسار عمله نوعاً من التوبيخ المستمر للتخصص الأكاديمي الضيق، وللتقوقع، الأمر الذي هاجمه آسفاً أكثر من مرة.

كل هذا جعل منه نوعاً مهماً للغاية من المفسر الثقافي - السياسي أو الوسيط بين عوالم متنائية، وغالباً متناحرة. غير أن ذلك لم يكن بلا أثمان. ففي بعض الأحيان، وكما اشتكى هو نفسه، كان دوره كناطق باسم فلسطين يعني أن يعامل في أوساط وسائل الإعلام مثل «دبلوماسي يمثل الإرهاب، له مكان إلى الطاولة». وفي الكثير من الحقول التي اقتحمها غاضباً، كان النقاد الأكاديميون يتهمونه بتقزيم خبراتهم، أو السخرية منها، أو الطعن فيها.

ولكنه كان بطلاً ثقافياً بالنسبة إلى البعض الآخر. كتب بارتا شاترجي «أن «الاستشراق» كان كتاباً تحدث عن أشياء شعرت أنني كنت أعرفها كل الوقت، ولكني لم أعثر على اللغة الكفيلة بصياغتها بوضوح. ومثل كل الكتب العظيمية، لاح أن هذا الكتاب يقول ما أراد المرء أن يقوله دائماً». البعض الآخر رأى أن مغزى عمل سعيد له طابع تاريخي - عالمي. وهكذا، يقول سوديبتا كافيراج: إن «إدوارد سعيد كتب «الاستشراق» في ملمح بطولي حقيقي انطوى على الثأر المنفرد مما فعل الغرب بشعبه». فريق ثالث، أقل تعاطفاً، يكتب عن العيش في «مناخ فكري مشبع تماماً بإدوارد سعيد»، حيث بات اقتباس أفكاره «أمراً إجبارياً».

ومنذ الآن لدينا أربعة مجلدات من المقالات نشرت تكريماً له، وهنالك أربعة كتب مكرسة لتفصيل القول في فكره، ومئات سواها مدينة لأفكاره لكي لا نقول إنها مسروقة منه. وعلى نقيض مما هو مألوف بالنسبة إلى أستاذ جامعي، كان سعيد أيضاً موضوعاً للعديد من الأفلام التلفزية الوثائقية التي تصور حياته. وبعد رحيله لا ريب في أن ذلك السيل من التحليل الثانوي والتكريم سوف ينقلب سريعاً إلى فيضان.

وجزئياً، كان نطاق عمله الواضح ومزيج أدواره - في كونه علامة بارزاً بين العلماء، وناقداً لا يكل للإمبريالية في أميركا ريغان وكلينتون وبوش الأب والإبن، والمناضل الفلسطيني في ثقافة عامة تهيمن عليها نزعة الانحياز للصهيونية - هما مصدر اتساع شهرة سعيد أسوة بالطبيعة الإشكالية التي اكتنفتها أيضاً.

غير أن هذا لا يقلل من قوة ونطاق العمل ذاته. وأيّاً كانت العثرات والهفوات والتباينات في كتاباته، فإنها في نهاية المطاف غيرت خريطة الحياة الفكرية المعاصرة. يضاف إلى هذا أن تلك التباينات كانت من النوع الذي نعثر عليه في عمل أي مفكر أساسي عند إخضاعه للقراءة التمحيصية، ضمن سيرورة يصفها سعيد نفسه هكذا:

«نحن نرتد إلى النص، ونستخلص التمييزات، ونسير ذهاباً وإياباً، ويحدث أحياناً أن نكتشف تلك الأمثلة القائمة على الالتباس أو حتى التقلب، حيث الكلمات يمكن أن تنتمي إلى هذا أو ذلك من مستويات الخطاب». (...

العدد 3263 - السبت 13 أغسطس 2011م الموافق 13 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً