«رجل أمن بالزي المدني يضرب مواطناً على وجهه ثم تحيط به الهراوات من كل جانب»، ظهرت هذه الصورة مئات بل آلاف المرات على أكثر من قناة تلفزيونية عربية ودولية بمناسبة الهبات الشعبية المندلعة على امتداد مساحة الوطن العربي. تمتزج الصورة بالمؤثرات السينمائية الخاصة، فيرتفع منسوب الأثر. يصير العنف أكثر وحشية، بل أكثر إذلالاً، بفعل القوة القمعية الرهيبة التي ترتمي بلا رحمة على ذات إنسانية. هل قلت ذات إنسانية؟ عفواً… هو مجرد رقم في معادلة الحكم. ألم يقل قائل إنهم مجرد جرذان؟ أي معنى لهذا؟
للشعوب العربية تاريخ مضنٍ مع التقتيل والقمع وخنق الحريات. وإذا اكتفينا بالتاريخ المعاصر، اندلعت ثورات جارفة في أكثر من بلد عربي مطالبة بالحرية، وجوبهت بالقوة والعنف وحسم فيها بقوة النار والسلاح. لكن أمام اتساع دائرة انتشار المعلومة وسهولة انسيابها بفضل أدوات الاتصال الجديدة، صار هذا الخيار صعباً إن لم يكن مستحيلاً. ورغم العنف الذي جوبهت به الاحتجاجات الحالية فإن زمن سحق الناس ودفن الحقائق قد ولى إلى غير رجعة، بعد أن دخلنا في زمن التوثيق الذاتي. إنه زمن الكاميرات الذكية، وعين البشر وقد تحولت إلى ما يشبه «عين إلاه» تتلقط تفاصيل الحياة الدقيقة وكل ما ترتكبه الأيادي الآثمة.
سيمرّ وقت طويل دون أن يستطيع المؤرخون والباحثون وعلماء الاجتماع السياسي وكتاب التاريخ الوقوف على حقيقة ما يجري من تغيرات في تصور الإنسان العربي لذاته ولمحيطه نتيجة المد الثوري الصاعد في المنطقة العربية. لكن أهم سؤال يجب الالتفات إليه هو: كيف تصنع التطبيقات الإعلامية الجديدة مصير العرب اليوم؟ وهل يخرج من رماد القهر والقمع إنسان بمواصفات الكرامة والحرية والإرادة والمسئولية؟
في الفضاء الافتراضي للإنترنت وجد العرب متنفساً خاصاً. واعتمد التونسيون والمصريون واليمنيون وغيرهم على جيش جرار من كاميرات الهواتف النقالة لنقل المحظور وتكسير الرقابة. انكسر الخوف، وسقطت رموزه. وصارت الشبكات الاجتماعية من قبيل الفيسبوك والتويتر وغيرها قنوات لتصريف المنتوج الإعلامي المواكب للثورات الناشئة.
الطرق البديلة لوسائل الاتصال الحديثة التي وفرها الإنترنت والهواتف النقالة المزودة بكاميرات ذكية ودقيقة قادرة على نقل الصور الحية والناضحة بالعنف والتقتيل. وهنا سجل التاريخ المعاصر أول ثورة عالمية استطاع فيها إعلام جماهيري بديل أن يزلزل آلة دعائية بإمكانيات بسيطة. فعلى سبيل المثال، مكَّنت الهواتف الجوالة من متابعة الأمور المتعلقة بتطورات الأوضاع ميدانيّاً أثناء الانتفاضات وفتحت الكثير من الخيارات حتى للفضائيات وكسرت المسافات المغلقة بسبب احتكار البث التلفزيوني. ما وسّع فرص انتقال المعلومة إلى خارج حدود الزمن والمساحة التي يمكن أن يتحكم فيها أي نظام مهما كانت قوته.
كشفت الثورات العربية أن الإنترنت صار من الضخامة حجماً وتأطيراً ما يجعله يلفت انتباه أصحاب القوى الاجتماعية التقليدية. لقد باتت الجيوش الجرارة والأجهزة الأمنية والاستخباراتية عاجزة أمام التغييرات الكبيرة التي أحدثتها الوسائل التقنية الدقيقة. ومن الناحية السوسيولوجية أصبح الإنترنت فضاء للحراك الاجتماعي وانهارت التقسيمات الكلاسيكية التي صنفت أجهزة الدولة إلى قمعية ورمزية وحصرت الأجهزة الرمزية في المدرسة والأحزاب والجمعيات وغيرها.
إن احتلال قمة الهرم الاجتماعي صارت في الوقت الراهن مشروطة بالسيطرة على تدفق المعلومة الجماهيرية المنسابة بدون حدود بين المشتركين في مختلف الشبكات الاجتماعية. صار الأمر شبه مستحيل، لأن التدفق اللامتناهي للمعلومة أسّس له مناخ الحرية العالمي الذي فرضته عولمة الصورة وسهولة التواصل عبر الشبكات الاجتماعية وغيرها. إنها إحدى حسنات العولمة. فبفضلها صار بالإمكان توحيد جهود المنظمات والفعاليات الدولية المناهضة للاستبداد. وبفضلها نشأت لأول مرة سلطة وسائل الإعلام البديلة. إنها «سلطة من لا سلطة لهم». ما يجري في العالم العربي كشف أيضاً سخافة آراء من قبيل «هل ستقضي تقانة المعلومات على التنوع الحضاري لتسحق هويتنا وخصوصيتنا؟»، هل الإفراط المعلوماتي نعمة أم نقمة؟
لقد أحدث الإنترنت تحولات جذرية في ملامح حياتنا اليومية التي تهاوت فيها الحدود بين ما هو عالمي ومحلي. وإذا كان هناك من تغيير استطاعت أن تحدثه فهو تذكير الجميع بأن الطبيعة الإنسانية كما يقول الوجوديون لا تتحدد بالماهية. إنما وجود الإنسان يحدده بنفسه على حد تعبير جون بول سارتر. والتونسيون مفجّرو صحوة الغضب العربي أنهكهم المنع فعلاً، لكنه ولحسابات ما، أفسح المجال واسعاً للفلسفة في البرامج التعليمية. وهنا يبدو الأثر الخفي للعوامل المستترة التي يحبل بها كل نسق مهما كانت طاقته وقوة ضبطه. فللفلسفة تاريخ مجيد بتونس. وللفكر النقدي والابستيمولوجي صولات وجولات ببلاد ابن خلدون. ولا أدري كيف غاب على منتجي الاستبداد أن الفلسفة ستنتهي بالناس ذات ربيع أن يطالبوا بحريتهم المسلوبة. أليست الفلسفة هي التي تعلمنا أنّه ليس هنالك ماهيّة تحدّد مسبّقاً وجود الإنسان وإنّما وجوده يسبق ماهيّته. وإن الخلاصة التي ينتهي إليها هذا الفكر تجعل الحرّيّة أخصّ خصائص الإنسان وإن علاها الغبار.
قبل أن يصبح شعار»الشعب يريد» شعار الشعوب العربية جمعاء في كل الشوارع والعواصم، كان مجرد كلمة، صورة، مقطع فيديو، أو أيقونة على صفحة شخصية لمواطن عربي. نزل المارد بسرعة من الفضاء الافتراضي إلى الواقع. والتحمت الجموع: نريد عقداً اجتماعياً جديداً. نريد إعادة تعريف الإنسان والسلطة والهوية والتراث وكل الكليشيهيات النمطية السائدة.
إن شعار «الشعب يريد» ليس سوى صدى لصوت العقل وهو يحاول النهوض من براثن الخرافة والاستعباد. إنه مليء بالرموز والدلالات وحامل بالقدر ذاته لفعل التحريض بحثاً عن الإنسانية المهدورة والحرية المفقودة. من أجل هذه القيم سال الدم غزيراً وإن كان ممزوجاً بمطالب اجتماعية. صحيح، أحرق التونسي محمد البوعزيزي نفسه مدفوعاً بضغوط اجتماعية وأقدم على فعل تدميري لا يطاق. لكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. من فعل الإحراق المطالب بالحرية اكتسب الحدث التونسي رمزيته. إنها رمزية ناتجة عن طبيعة الشرارة الأولى المتمثلة في فعل الحرق كفعل تدميري. وتزداد الشحنة العاطفية التي روّجها الحدث بفعل قوة النار التي تشكل حسب أكثر من معتقد إحدى المكونات الأربعة للوجود. فعل التدمير والحرق حالة ملحمية وأسطورية ولهيب النار يتساوق مع حجم الكبت الناتج عن الحرية المفقودة. لكن هل نحتاج لكل هذا الدمار في القرن الواحد والعشرين للتطهر من انتهاك الكرامة العربية؟
تراجيدية موت البوعزيزي ورمزيته تتفوق على كل الكلمات. رمزية مدموغة بالعدم المولد للوجود. وتزداد الشحنة العاطفية التي يحملها «انحراق البوعزيزي» كلحظة فارقة بين زمنين عربيين بفعل قوة النار كمكوّن وجودي. إن الرموز التي تشكلت على امتداد فعل الاحتجاج بدءاً من الفعل التونسي لم تقف عند حد الإحراق والذي تحول إلى قوة دافعة ملهمة لكل المهمّشين. زخمها المشتعل أجّج النار في الهشيم المتهالك. نيران التطهير والقداسة بكل ما تحمله النار من رمزية. نار إعلامية وأخرى سياسية وما بين هذا وذاك محاولة جاهدة لنهضة حقوقية تستعيد مفهوماً غائباً للإنسان. الإنسان الحر.
مليئة بالرموز شرارة فعل الاحتجاج العربي. لقد تحولت النار إلى قوة دافعة ملهمة. وسائل الإعلام البديلة في زمن العولمة نفخت فيها قوة لا نظير لها.
وهنا لابد من وقفة تأمل أخرى إزاء كل الأفكار النمطية السائدة حول العولمة. في العالم العربي ترتبط العولمة في أذهان الكثيرين بتصورات سلبية. يربطها البعض بالأمركة والغوربة، فيما ينظر إليها الآخرون كتهديد مباشر للهوية أو مرادف للغزو الثقافي والاجتياح الحضاري وغيرها من الأوصاف المشيطنة. لكن الأحداث الجارية في العالم العربي فرصة لإعادة النظر في العديد من الأحكام الجاهزة. إن ما يجري وما سيقع ربما في أكثر من بلد عربي يمثل إحدى المشاهد الدالة على مفعول العولمة. إنها معطًى معقد يتطور تطورًا سريعًا. ومن تجلِّياته إلغاء الحواجز التي تعوِّق تنقُّل الأشخاص والثروات. لكن هذا البعد الاقتصادي الصرف محكوم بنظرة تبسيطية. لأن العولمة وباعتبارها نسقاً شديد التعقيد، لا يمكن حصر مفاعيلها في هذا البعد دون الآخر.
إن النقاش حول العولمة ومحاسنها أو سيئاتها غالبًا ما يركز على البعد الاقتصادي لهذه الحركة، متجاهلاً الأبعاد الأخرى التي لا تقلُّ أهمِّية عنه. القائلون بأن العولمة تدعم قيم الأقوياء وفي خدمة الأقوياء واهمون. إنها تصنع قيماً جديدة خارج دائرة كل الأطر الثقافية السائدة، لعلها على الإطلاق: الحرية.
فعلاً قد تكون التحولات التي تحدثها العولمة سريعة وموجعة في الأنظمة الاجتماعية والحضارية المتهالكة، لكن إحدى استراتيجياتها المقصودة أو الناتجة عن استحالة التحكم في مخرجاتها المتعددة تبقي الحرية. حرية تلقِّي المعلومة وإرسالها مع ما يستتبع ذلك من نتائج. من استتباعات حرية تدفق المعلومة أن تحول الإنترنت إلى قوة متمددة ومخترقة لكل الحصون الاستبدادية المغلقة. وجعلت شباناً من وراء فأرة الحاسوب يرعبون أنظمة كثيراً ما اعتمدت على عتادها الاستخباراتي والأمني لتأمين وجودها. لكن الشبكات الاجتماعية من فيسبوك وتويتر واليوتوب والهواتف النقالة بكاميراتها الذكية تعيد تعريف الإنسان. أسلحة خفيفة وذكية. تقنيات تعمل معاول الهدم في كل شيء. في السياسة وفي الاقتصاد والاجتماع. التقنية تصنع أثرها خارج كل الرهانات، وأنتروبولوجيا كثيراً ما يتم تحديد الإنسان باعتباره صانع أدوات. الخاصية الإنسانية للإنسان متجسدة في استعماله للأداة وعمله في الطّبيعة من خلالها. لكن الأدوات الجديدة للعمل رفعت من منسوب رمزية الإنسان. وصارت اللغة الأكثر قدرة على ترتيب الأحداث ونقل الحقائق وتكثيف مفعولها هي لغة الصورة العابرة للحدود والقيود.
ليست التقنية إذن مجرد أدوات كما يقول شبنغلر. إنها مفعول وقيم. إنها إبداع إنساني خلاق. قوة مفعولها يتجاوز التوقعات. اخترقت المجال الخاص والعمومي وصارت توجه. تستعبد. لكنها تحرر أيضاً. وهذا ما دفع بوسائل الإعلام العالمية إلى التركيز على قوة مفعول وسائل الإعلام البديلة التي لعبت بدون شك دوراً في إسقاط الاستبداد.
استخدم الآلاف الإنترنت لمؤازرة بعضهم البعض قبل التوجه إلى الشارع للاحتجاج على ارتفاع معدلات البطالة والفساد، في حين توجه أنصار حركة التغيير إلى تويتر والفيسبوك لإطلاق هتافات الانتصار. الأكيد أن قادة الاستبداد في العالم وليس العرب فقط، سيصابون بحالة من التوهان بفعل سرعة السقوط. قد يصدقون أو لا يصدقون. قد يلجأون إلى بعض التحليل السوسيولوجي والسياسي وحتى الاستخباراتي. لكن الذي يجب أن يتذكره الجميع هو أن الطبيعة الإنسانية كما يزعم الوجوديون لا تتحدد بالماهية. إنما وجود الإنسان يحدده بنفسه على حد تعبير الوجوديين. لسنا نحن العرب استثناء. هذا على الأقل ما تقوله الثورات العربية التي بدأت افتراضية ونزلت إلى الواقع ماضية في التأسيس للعقل العربي الجديد. إنها بالضرورة تؤسس لمنظور جديد لنبذ كل تأليه مطلق ومغلق ومكثف للسلطة.
في الشارع العربي سقطت كل الكليشيهيات تحت وقع «Dégage» و «الشعب يريد» و «ارحل». الكلمات اكتسبت مفاعيلها السحرية. ألم يقل بول إيلوار «الكلمات لا تكذب»؟… نعم إنها لا تكذب. يجب فقط أن نقارن كلمات الشعب بكلمات القابضين على زمام الحكم. ما هو المعنى الذي تتخذه مثلاً كلمات من قبيل «ارقصوا غنوا وافرحوا واستعدوا» ماذا يعني سباب من هذا القبيل «يا أيها الجرذان» وهي توجه لشعب تجرأ على قداسة الحاكم. ما يمكن أن نقوله من وجهة نظر منطقية بأن المعنى هو الشرط الضروري لكن غير الكافي للحقيقة. ومن المؤكد أيضاً أن هذا المنطوق يحتوي على جزء من الحقيقة فهذا القول لا يقل أهمية عن عبثية القول بأن «الأرض زرقاء مثل الليمونة».
هل ما يتفوّه به الحاكم العربي عبثي ومجرد من المعنى؟ أم أنه يحمل المعنى الحقيقي لفلسفة الاستبداد وهي تحقر الذات الإنسانية العربية وتذلها. الحدود بين المعنى واللامعنى في الخطابات العنيفة للحكام في اتجاه شعوبهم ليست خطابات خارج دائرة العقلنة. وهنا لا نحتاج كثيراً للعودة إلى التحليل النفسي. ما نحتاجه بالفعل هو أن نوسع دائرة العقل لننزاح به بعيداً، إذاك سنكتشف في منطقة الصحو كما في الفيافي والمناطق المعتمة أن التخلف والعجز ليس قدراً. إنه نتاج لعقود من تكبيل الحريات وخنق الإبداع. عقود طويلة من زرع الوثوقيات والأفكار الجاهزة والمتوارثة دون تمحيص أو إعمال للعقل سواء كانت صادرة عن الماضويين أو الثوار الحداثيين الذين يشيعون فكرة الإجماع واليقين المقدس ويواجهون من لا يتفق معهم بكل أشكال العنف والتحقير. فهل يتعظ المتعظون؟
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3261 - الخميس 11 أغسطس 2011م الموافق 11 رمضان 1432هـ