العدد 3260 - الأربعاء 10 أغسطس 2011م الموافق 10 رمضان 1432هـ

الموتى والخروج على شريعة الجسد

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أجساد كثيرة تقيم خارج نفسها؛ لأنها أكبر من الوعاء الذي يحتويها. أجساد كثيرة تظل ملتصقة بالحصري من المكان ومعناه.

أن تتجاوز جسدك، يعني أن تتجاوز كل حصار يسور روحك. يسور معناك وخياراتك وقدرتك على الفعل والتغيير من خلال ذلك الفعل. ما بعد الجسد ينابيع يغتسل فيها الإنسان. يترك أدرانه الجسدية والنفسية وراءه. يخرج إلى العالم معمداً بالنقاء. محاولة قبضه على فطرته الأولى.

في الجسد التحام وارتهان للنقيض: ألا تعود أنت. أنت كما تريد؛ لا ما يريد جسدك وما يملى عليك من خارج ذلك الجسد. جسد يسرد مغامرتك في حيز وصراع أنت طرفه الوحيد. لا اختبار لقدرتك على مواجهة العالم ما بعد ذلك الجسد. كأنك في جسدك مقيم في منفى لا طائل من ورائه. كأنك بخروجك من ذلك الجسد في أوطان متعددة تلغي حدودها وتؤثث إمكانية الصنيع المدهش الذي ستخرج من خلاله على الناس والعالم.

لن يشفى جسد إلا بالخروج منه وعليه. ذلك ينسحب على مفاصل عديدة في أجساد الحياة من حولنا. الروح نفسها لا تعود روحاً ما لم تحلق. الجسد نفسه بمعيار الحراك لا يعود جسداً ما لم يحلق خارج حدوده وأسواره.

شقاء للجسد أن يظل مقيماً في حدوده. سعادة له أن يتجاوز حصاره واختباءه وانكفاءه على نفسه. الموتى وحدهم الذين لا يتمكنون من الخروج على شريعة أجسادهم. هم رهن شريعة الموت وشرطه. يحركهم كيف وأنى شاء. ثمة موتى أحياء بيننا لا يرتاحون لأرواحهم؛ لأنهم خارج سياق مشيئتهم، ورهن مشيئات تطل عليهم طافحة بالفرض وتحترف تلقي التلقين والذهاب إلى السطو على الأرواح بما تقعد له.

أجساد في مهب إرادات لها خيار أن تدفعك للنطق بالحكمة أو التدثر بالخرس. أجساد تحوم في جنباتها المظلمة غربان ولا مكان للأجنحة النبيلة في حيزها المسور. أجساد لا نهار فيها. مكتظة بالليل. تسبح في مجرات من عدم.

أجساد مرايا الظلمة تكاد تكون وقتها المؤبد. عطرها العطن وشرفاتها الحفر وأعضاؤها النهب ووردتها الخيبة وهواؤها التشنج. أجساد لا اسم لها. لا شيء يدل عليها سوى أنها خارج المعنى. أجساد تتبخر عندها كل معرفة وترتفع بيارق استعراض الرماد واللامعنى. أجساد لا شهوة لها سوى أن تمضي إلى نهايتها ولا أول لها. أجساد لفرط انحيازها لانهيارها لا أفق بعدها. الأفق في مذبحته. كل أفق بعدها محض رماد. محكومة بالوهم ومقادة في برازخ من العتمة.

السياسات العربية اليوم لم تبرح مساحة الجسد. هي موغلة ومستسلمة لمناخ جسدها وما يمليه ذلك الجسد من تناقضات لا ترى ما بعده. لا ترى الخارج. ترى حيزها فقط، وتختزل تعاملها وتعاطيها مع العالم من حولها عبر مناخات وتقلبات وأنواء ذلك الجسد. جسد هش حد العدم. جسد متفسخ لا يمكن أن يعد إلا بروائح المؤامرات والغبار الذي تتحدد وظيفته في حجب الأفق.

لم تنتج السياسات العربية أمس واليوم وغداً إلا مزيداً من خسران روحها قبل جسدها المترهل الذي سهرت على خاتمته ومآله، رفداً له بالتراجع وإمداده باستمرار الخذلان.

لا معمار يمكن أن يريح النفس والعين لذلك الجسد. وفوق هذا وذاك ثمة صواعق تطلع من ذلك الجسد وظيفتها الوحيدة في الحياة ألا تبقي ولا تذر أثراً من تلك الحياة؛ فيما تضمر السياسات العربية اليوم عبر جسدها المترهل وحكمتها المقبورة رجماً لكل متحرك وحرقاً لكل ما يمت للأخضر بصلة

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3260 - الأربعاء 10 أغسطس 2011م الموافق 10 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً