في الدراسة المقارنة بين النازية والصهيونية، وتأكيداً لكونهما «وجهين لعملة واحدة»، سيلحظ القارئ تكرار اقتباس مقولة تريتشكه بنصها الآتي: « إن التحدث بعمى عن السلام هو العار الذي لحق بالفكر والأخلاق في عصرنا هذا»، مراراً كثيرة لأوظفها في مجال، دراسات كثيرة متنوعة منذ أن اقتبستها أول مرة، ووظفتها لخدمة غاية في دراسة متعددة الحلقات، وتم نشر أول حلقة منها، وتتالى نشر باقي حلقاتها الست بعد اجتياح «إسرائيل» لبنان في يوليو/تموز .
ومن المفارقات التي تميز بين ماضي الصحافة وحاضرها، هو أن الدراسة للحلقة الواحدة آنذاك تصل إلى و و صفحات وربما أكثر من دون ترك سطر. وفي اعتقادي، أن تكرار الاقتباس نفسه، وإعادة اقتباسه مثنى وثلاث ورباع، إذا ما تم توظيفه لتثبيت رأي الباحث في دراسات وبحوث مختلفة، تخدم قضايا التحرر الوطني، فإن هذا لا ينتقص من كفاءة الكاتب.
على أننا في هذه الدراسة سنبذل أقصى جهد لدينا لنثبت كما قال الرئيس التشيكي بنيش:
«الطرق بعمى على أبواب السلام»... لم ولن يجدي نفعاً، لأن الغاية الأساسية للأنظمة العنصرية هو استسلام الطرف المستهدف، وإن المبادرة العربية للسلام مع «إسرائيل» لا تخرج عن تحقيق الغاية الأساسية (الاستسلام) للنظام العنصري الإسرائيلي الصهيوني. وهذا هو السلوك الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل في عرف الدكتاتورية التي تقيم حكمها على أيديولوجيات تنطلق من أفكار عنصرية استعلائية مثلما عليه الأمر في حالتي النازية والصهيونية:
النازية: تؤمن بأن الآري، لكونه «فرومينوس الجنس البشري، الذي انبثقت من جبهته المتألقة الشعلة السماوية للعبقرية فإنه يجب أن يبقى السيد المطلق». كتاب «كفاحي» لهتلر.
الصهيونية: إننا اختارنا الله لنحكم الأرض كلها، والله منحنا العبقرية، لنضطلع بهذا العبء «بروتوكولات حكماء صهيون».
لا شك أن القارئ لمس التماثل العنصري بين النازية والصهيونية، وترسخت لديه القناعة التامة بأن «النازية والصهيونية وجهان لعملة واحدة... ومن عجب أن أميركا زعيمة العالم الحر، التي لا تني تعير مختلف الحكومات الألمانية، وليس آخرها حكومة المستشار شرويدر عندما اتخذ موقفاً مغايراً لموقف أميركا يحافظ معه على السيادة الألمانية، ويؤكد استقلالية قرارها كدولة لها ثقلها بين الدول الكبرى، تجاه موقف أميركا العدائي ضد العراق، عندما رفع المنفلت جورج بوش رسول الشر الأميركي، عقيرته معيرا ألمانيا: «يجب عليكم أن تتذكروا أننا من حررناكم من النازية»، ولكنه ينسى أنه بعد أن ساهم في محاربة العنصرية النازية، انغمس وأغرق أميركا في احتضان العنصرية الصهيونية والدفاع عنها إلى درجة أن ضاقت دول العالم من التحيز الأميركي الذي وصل إلى درجة الوقاحة والاستهتار للعنصرية الإسرائيلية الصهيونية، إلى حد سلبت معه احترام البشرية لكل ما هو أميركي، واوقعت سياسات الحكومة الأميركية غير المتوازنة الشعب الأميركي العظيم في ظاهرة تميزت بملاحقة الفرد الأميركي بالكراهية واكفهرار الوجوه من مجرد مقابلته ماشياً على رصيف أي شارع في أي بلد من بلدان العالم!؟
وفي تأكيد لاستحالة التفاهم مع أي نظام عنصري في العالم، أو عقد صلح معه، والتعايش معه في أمن وسلام... وهذه غاية لا يمكن إدراكها وبلوغها مع أنظمة عنصرية استبدادية. ولتأكيد هذه الحقيقة وارسائها ملموسة على أرضية الواقع المعاش نضرب لها مثلين واقعيين لنظامين متشابهين عانت البشرية بسببهما أشد المعاناة أحدهما دخل التاريخ بعد أن صفى المجتمع الدولي معه الحساب على أنهر من الدماء وملايين الضحايا البشرية البريئة.
والثاني مازالت الإنسانية تشهد يومياً فظائعه، تحت حماية أميركا المتبجحة بالديمقراطية أو «الديمخراطية» وقاتلة الشعب (العراقي والأفغاني والفلسطيني).
هذان النظـامان العنصريان، هما: النظام العنصري النازي والنظام العنصري الإسرائيلي الصهيوني، واللذان يشكلان فيما بينهما «وجهين لعملة واحدة». فلنقف عند أحدهما لنكتشف أن المحاولات معهما لإرساء سلام وأمن يعيش العالم في ظلهما، من قبل محبي السلام ليست إلا كما قال الشاعر:
أماني كالأحلام زخرفها الكرى
وعز على الأيام أن يصدق الحلم
إنه في الخامس من سبتمبر/أيلول ، قام رئيس وزراء بريطانيا آنذاك الحالم نيفيل تشمبرلين بأول رحلة جوية له، إلى برختسغادن في ألمانيا النازية، في ظروف كان السلام والأمن العالميين يمران بأحرج فترة بعد الحرب العالمية الأولى.
كان هدف تشمبرلين من زيارته، إجراء محادثات مع مستشار ألمانيا النازية الفوهرر «ادولف هتلر»، في محاولة منه لتثبيت دعائم السلام والأمن، اللذين بدأت أركانهما تهتز منذرة بكارثة جديدة، بسبب مواقف التطرف والاطماع التي تميزت بها سياسة الحكومة الألمانية النازية في نهجها العنصري، والتهديدات التي كانت تطلقها هذه الحكومة ضد جاراتها من الدول المحيطة بها، بعد الحرب العالمية الأولى وكذالك نشهد بعد ما يقرب من اربعين عاماً على رحلة تشمبرلين وللغاية والهدف نفسهما، وفي حركة تمثيلية مأسوية، أدت إلى فصم العمود الفقري الذي تمثله مصر في وحدة العالم العربي، طار السادات في التاسع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني من مصر إلى القدس في فلسطين ليلتقي رئيس وزراء «إسرائيل» الصهيونية العنصرية... فماذا كانت النتيجة؟!
عاد تشمبرلين إلى بريطانيا وملأ خيالياته الانهزامية والتصورات الخيالية التي خدع بها نفسه وشعبه، بأن رداء أخضر قد انفرد ليظلل العالم، وأن الغمامة المدلهمة الكئيبة قد انقشعت وأعلن انطباعه إثر اجتماعه بهتلر بقوله:
«وعلى رغم ما رأيته في وجهه من صلابة وقسوة، فإنني أخذت الانطباع بأن في وسع الإنسان أن يعتمد على هذا الرجل وعلى وعوده... وبهذا يكون شمبرلين قد سجل على نفسه أنه غبي بما فيه الكفاية».
ويظهر أن تشمبرلين بحكمه المتسرع على هتلر وانخداعه فيه، أنه لم يكن قد اطلع على كتاب «كفاحي» لهتلر الذي ضمنه كل مخططاته وتصوراته للدولة العنصرية التي يجب أن تسود العالم، وبالتالي لم يؤثر عليه اجتياح النمسا وضمها إلى الرايخ الثالث، ومتابعته الخطى لسيادة العالم، والشروع في مؤامرته الجديدة على تشيكوسلوفاكيا.
ومثلما عاد تشمبرلين بأوهامه من ألمانيا عاد السادات الحالم والواهم الثاني الذي ضيع بعنترياته الفالتة ثمار حرب رمضان وبددها بأوهامه للعالم، بأن حرب رمضان هي آخر حرب تقع في الشرق الأوسط، أنه قد آن الأوان لأن تعيش دول المنطقة وشعوبها في محبة وسلام. والسادات يؤكد أنه هو الآخر، لم يطلع على «بروتوكولات حكماء صهيون»، ولم يستوعب الأهداف الصهيونية الآنية والبعيدة، ولم يعن شيئاً بالنسبة إليه أن «إسرائيل» قامت طبقاً لقرار التقسيم العالم على نصف فلسطين وعندما قام بزيارته المشئومة كانت كل فلسطين وغيرها من أراض مصرية وسورية بفضل مساندة أميركا لـ «إسرائيل» كلها تحت الهيمنة الإسرائيلية الصهيونية.
ومع ذلك، فقد ظلت الحوادث تأخذ مجراها على رغم الزيارة التشمبرلينية، والزيارة الساداتية، حسبما خططت الصهيونية وأميركا في شرقنا العربي، وحسبما خطط لها هتلر وأعوانه في أوروبا، إذ كانت النتيجة بالنسبة إلى الزيارة الأولى الحرب العالمية الثانية، وبالنسبة إلى الزيارة الثانية، فقد كانت المؤشرات ومازالت تنبئ بأن الأيام حبلى بالكوارث والمآسي التي ينتظرها ليس عالمنا العربي فحسب بل العالم بأسره، وأن الذي حدث من اجتياح «إسرائيل» إلى بيروت، والتي عبر عنها اليمين المسيحي، الذي أساء إلى الديانة المسيحية، بأكثر كثيرا، وبما لا يقارن أو يقاس مع إساءة، رواية دان براون «شيفرة دافنتشي»، ترجمة: سمة محمد عبدربه... إذ قال اليمين المسيحي: إنه ربما تكون «إسرائيل» في اجتياحها إلى بيروت، تخوض معركة «هرمجيدون»، التي تنبأ بها رجال الدين من اليمين المسيحي المتطرف، والتي تخطط لإثارتها أميركا بكل الوسائل لا لشيء إلا لاستخدام ترسانتها النووية لإبادة الحياة من على الكرة الأرضية، واعدادها لله ليخلق عالماً جديداً، كل هذه الاطروحات الشاطحة من أجل التغطية على فشل نبوءات اليمين المسيحي من حكام أميركا، ومن هذا يرى القارئ الواسع الاطلاع أن ما سلف إيضاحه يتفق تمام الاتفاق مع ما جاء في بروتوكولات صهيون، والذي ينص على: «إذا ما اتفق العالم كله ضدنا فسنستثير السلاح الأميركي والياباني والصيني ضد أعدائنا، و سنشعلها حرباً عالمية لا تبقي ولا تذر تنفيذاً للمبدأ الصهيوني «عليّ وعلى أعدائي يا رب»...
وبالنسبة لأولئك الذين يحلمون بسلام مع الأنظمة العنصرية الاستبدادية، ممن يتيهون في «أماني كالأحلام زخرفها الكرى... وعز على الأيام أن يصدق الحلم»، سيرون أن السلام مثلما كان أمراً مستحيلاً مع النازية فإنه أكثر استحالة مع الصهيونية
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 1379 - الخميس 15 يونيو 2006م الموافق 18 جمادى الأولى 1427هـ