العدد 1379 - الخميس 15 يونيو 2006م الموافق 18 جمادى الأولى 1427هـ

الحرية من منظور قرآني

ليث كبة comments [at] alwasatnews.com

.

«وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون» (). «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين» (). «قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» (). «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين» (). «وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين» (). «فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين» (). «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم» (). «قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (). «والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» (البقر: ).

لم تذكر الآيات السابقة لفظ الحرية تحديداً، لكن معنى الحرية ومفهومها تتضمنه كل آية منها. فهذه الآيات من الذكر الحكيم تقص علينا بترتيب واصح وتفصيل دقيق قصة خلق الإنسان، وحديث الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة عن طبيعة البشر، وأمره إياهم بالسجود لآدم، وما أعقب ذلك من رفض الشيطان السجود للإنسان، ثم تتعرض الآيات لمعصية آدم وحواء وهبوطهما إلى الكوكب الأرضي. والأفكار الآتية تعرض رؤيتنا لمفهوم الحرية من منظور قرآني:

أولاً: استخلاف الإنسان: لقد خص الله البشر بخلافة الأرض وعهد إليهم بالتكليف وبالمسئولية عن أنفسهم وعن إدارة شئون هذا الكوكب الأرضي. وقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يصبح الإنسان خليفة في الأرض وأن يملك حريته وألا يخضع لأي مخلوق آخر أيا كان. وبعد أن خلق الله آدم وحواء ليكونا بداية السلالة البشرية، لم ينزلهما مباشرة إلى الأرض ليستخلفا فيها. فالله عز وجل يخبرنا في قرآنه العظيم عن حياة آدم في الجنة، وعن معصيته أمر ربه بعدم الأكل من الشجرة ثم هبوطه إلى الأرض. لقد اعدت البشرية لخلافة الأرض.

ولعل هذا هو السبب في أن قضية استخلاف الله للإنسان في الأرض ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بأول شهادة في الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله حقا وصدقا ويقينا. إن لفظ إله هنا يشير إلى القوة المهيمنة على الكون بإطلاقه والتي يخضع لها الجميع بالعبادة والتقديس.

ثانياً: الإخفاق: إن القرآن يورد لنا أن الملائكة عندما تلقوا حديث خلق البشر من رب العزة سبحانه وتعالى وأن بني البشر سيكونون خلفاء في الأرض، قالوا إن عاقبة ذلك ستكون الإفساد في هذه الأرض وسفك الدماء، لكن الله عز وجل اختار أن يملك البشر زمام أنفسهم وأن يتولوا إدارة شئونهم على رغم استعدادهم الفطري لارتكاب المعاصي وسفك الدماء والإفساد في الأرض كما قالت الملائكة التي كانت تعلم يقينا بخصائص الطبيعة البشرية. وجاء رد الله سبحانه وتعالى على الملائكة بأن حكمته وإرادته شاءتا أن يكون الإنسان خليفة في الأرض على رغم استعداده للانزلاق في مهاوي الزلل وارتكاب الآثام والمعاصي بمحض اختياره، لكن هذه المحاجة من قبل الملائكة لله عز وجل لم تكن كافية لحرمان البشر من خلافة الأرض.

ثالثاً: العقل: ثم يخبرنا الله عز وجل كيف خلق البشر وعلمهم حفظ الأسماء كلها وفهم معانيها، وهو ما لم يتسن للملائكة. ثم يخبرنا سبحانه وتعالى كيف أوضح أن هذه المهارات الفطرية ستمكن البشر من الفهم والإدراك وهو ما لم تستطعه الملائكة، وكيف ستتيح هذه المهارات لبني البشر أن يكونوا خلفاء في الأرض.

رابعاً: علو المنزلة: لقد أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بأن يسجدوا لآدم أبي البشر ورمز البشرية. وهذه المنزلة السامية والإجلال اللذين وهبهما الله لآدم وجسدتهما الملائكة أعطيا أبا البشر ونسله من بعده هذه القيمة الإلهية. وليس من سبيل آخر - أوضح من هذا - يمكن به تأكيد تكريم الله للبشر.

خامساً: المسئولية: لقد أسكن الله آدم وحواء في الجنة بوصفهما مخلوقين ساميين مكرمين، وحباهما مهارات فطرية للتفكير، كما منحهما القدرة على الاختيار، ولكن آدم وحواء خالفا التوجيه الإلهي وعصيا ربهما على رغم حياتهما المنعمة في الجنة، لكن الله سبحانه وتعالى لم يعاقبهما ولم يجردهما من تلك المكانة السامية التي خلعها عليهما. كل ما حدث أنهما وذريتهما أنزلوا إلى مكان أدنى بكثير من الموطن الأصلي في الجنة، ليكابدوا الحياة على الأرض حيث الشيطان حر طليق لإغوائهم. إن الفرصة لوقوعهم في الغواية والخطيئة والمعاصي أكبر الآن بكثير من ذي قبل.

سادساً: الهداية: لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان حرا مخيرا ومنحه الفطنة لكي يضطلع بالدور الذي لا يمكن له أن ينهض به ما لم يكن حرا ومالكا لزمام نفسه، لكن الحرية والفطنة لا تكفيان. فالآيات تخبرنا بشيء آخر إضافي تستلزمه مقومات الخلافة في الأرض: ألا وهو الهداية الربانية التي وعدها الله البشر وكفلها لهم عبر تتابع الأنبياء والرسل. لقد بعث الله النبيين وأرسل الرسل لهداية البشر نحو حياة أفضل على الأرض وللأخذ بأيديهم إلى الجنة في الحياة الآخرة. وتوضح الآيات أن ثمة نتائج مؤكدة، سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة، لاتباع منهج الله أو الإعراض عنه. فالذين يسيرون على المنهج الرباني سيأمنون عذاب الله وعقابه «وهم من فزع يومئذ آمنون» (النمل: )، أما الذين يعرضون عن هذا المنهج الإلهي فإنهم سيعيشون معيشة ضنكا في الدنيا ثم يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب.

سابعاً: حدود الحرية: والآن إذا وضعنا هذه الآيات نصب أعيننا، فإن علينا - كمسلمين - أن نعلم أن للحرية حدودا. فالمسلمون يوقنون أن إردة الله هي التي شاءت أن يمنح البشر القدرة والحرية في الاختيار على رغم ما يستتبعه ذلك من إمكان الزلل وارتكاب الذنوب والمعاصي والخطايا. وعلى المؤمنين ألا يفرطوا، بأي حال، في هذه الإرادة التي وهبا لهم الله سبحانه وتعالى، كما أن عليهم ألا يفترضوا أن لهم الحق في حرمان الآخرين من هذه الحرية. إن الطغاة هم الذين يفعلون هذا، لكن المسلمين يرفضون ذلك من واقع ذلك التكليف الإلهي. فالطغاة يدعون لأنفسهم الحقوق التي وهبها الله للآخرين. ومن يتجاوزون هذه الحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى ويتدخلون مباشرة في حريات الناس باسم الدين إن هم إلا مستبدون باسم الدين، بل إن بعض هؤلاء مثل فرعون يدعي أنه إله على الأرض «يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري» (القصص: ). وعند الانتقال بهذا العرض لمعنى الحرية من المفهوم النظري إلى التطبيق العملي، يجب أن يأخذ المسلمون في الاعتبار أبعادا أخرى.

فالحرية مفهوم ومبدأ وقيمة مجردة، لكن ممارستها وتعريفها يحددهما واقع الحياة في المجتمع. إن للحرية جانباً آخر هو المسئولية ويتضمن قيودا وقواعد للسلوك. وبالتأكيد فإن هناك نتائج لتجسيد معنى الحرية على الأرض سواء في الحياة الدنيا أو في الآخرة. وهناك حاجة إلى عهود ومواثيق واتفاقات تحكم العلاقات بين أفراد المجتمع، وإلى مؤسسات وعقود اجتماعية، وقوانين ونظم للعقاب.

إن الإسلام قد حفظ هذه القيم وخلدها في القرآن الكريم، وجعل حرية الاختيار عند البشر منحة من الله تعالى. إن الإسلام يرقى بمبدأ الحرية والحق في التفكير والاختيار إلى أعلى مرتبة. ولهذا فإنه يجب أن تتسق جميع تفسيراتنا وممارساتنا لتعاليم الإسلام مع هذه القيم الإلهية التي تتضمنها - بجلاء - هذه الآيات. وسيجد الناس أن هذه القيم ليست فحسب محددة بدقة ووضوح في القرآن الكريم، لكنهم سيحتاجون إلى الإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى ليستقر عندهم أن هذه القيم الإلهية راسخة في قلوبهم وعقولهم، لأنه لو لم تتأصل هذه القيم في النفس البشرية بيقين إلهي، فإنها ستظل مذبذبة في العقل وربما لا تقاوم الغواية والضعف البشري اللذين قادا آدم (ع) إلى المعصية الأولى. ولهذا فإن على المسلمين أن يرسخوا وجود هذه القيم لتستقر في إيمانهم واعتقادهم.

ملاحظة: ينشر هذا المقال بالتعاون مع المنبر الدولي للحوار الإسلامي - لندن

العدد 1379 - الخميس 15 يونيو 2006م الموافق 18 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً